ثمة عناصر كثيرة تجعل مديرية المنصورة في محافظة عدن تستقطب الاهتمام وتحوز الضوء: هي همزة وصل بين بقية المديريات ومحافظات الجمهورية، ومركز حركة 16 شباط (فبراير) الشبابية وإحدى أبرز الحركات التغييرية في اليمن ضمن ربيع الثورات العربية... سقط في المنصورة أول شهيد في الحراك، وفي هذه المديرية أيضاً ظهرت أول امرأة يمنية تبيع الصحف على الرصيف، بجوار أحد المستوصفات الخاصة. يسرى عبده عمرها 28 سنة، توقّفت عن ارتياد المدرسة في الصف الإعدادي الأول، تجيد القراءة والكتابة، لكن الأهم أنها متحدثة بارعة مع زبائنها. هي أم لطفلتين ورضيع، وكملايين الأسر اليمنية يطحنها الفقر، ولم تأبه لكونها أول بائعة لأخبار البلاد التي تغلي، كانت تبحث فقط عن مورد رزق شريف. في البداية، عملت يسرى في البيوت، ثم عاملة تنظيفات في مدرسة، ومربّية، ودلاّلة تبيع الملابس الملمومة في قطعة قماش في مواسم العيد... وتتخذ الآن من دوار «جولة كالتكس» في المنصورة مقراً لها، حرّاً ومتواضعاً، حيث تبيع الصحف من السبت إلى الخميس. قررت يسرى الاستقرار أخيراً في مهنة بيع الصحف مدفوعة بشغف زوجها رياض في قراءتها يومياً. فهو حين يفرغ من استعراض الأخبار والمقالات، ينصرف إلى حلّ الكلمات المتقاطعة ولعبة «السودوكو». رياض حاصل على دبلوم فني معماري، لكنه يكون أحياناً عاطلاً من العمل ويبحث عما يمضي فيه وقته فينسى همومه. هكذا، حين لا يكون مستدعىً إلى ورشة أو مشروع، يبدأ نهاره بشراء ثلاث صحف بمئة ريال يمني (ما يعادل أقل من نصف دولار)، وأحياناً يشتري الصحيفة بالمال المخصص لفطوره، وإلا فكيف سينقضي النهار الذي يطول كثيراً حين يتعطّل الرزق؟ استوحت يسرى الفكرة منه، فتدبرت جمع مبلغ خمسة آلاف ريال يمني كرأس مال بسيط لشراء الصحف من أحد الأكشاك، وانطلقت تسعى إلى تجربتها الأولى في البيع... كانت خائفة: هل سيشتري الناس منها؟ هل سيفتح لها سائقو السيارات نوافذهم؟ هل ستكون في أمان؟ كان زوجها رياض يراقبها من بعيد ليطمئن ويطمئنها. في البداية، وقفت إلى جانب بائعين آخرين، والآن أصبحت البائعة الوحيدة في المكان. حازت «مكانها» و «زبائنها» أخيراً، كأنها صنعت لنفسها اسماً إذ تحول زملاؤها إلى الجهة الأخرى من الدوّار. في بادئ الأمر، غضبت والدتها منها ومن زوجها الذي سمح لها بأن تبيع الصحف في الشارع، فهذه مهنة الرجال. لم تستوعب أن امرأة قد تكون أنجح من الرجل في هذا العمل، وأقرب إلى نفوس الناس. لكنها بعد فترة سامحتها، وبدأت تقدّر شجاعة ابنتها. قارئة أيضاً هكذا، وفي اليوم الأول من العمل، باعت يسرى كل الصحف، فجنت ربحاً متواضعاً غطى نفقات الأسرة لذلك اليوم، ما شجعها على الإستمرار، سعيدة وراضية بربحها الذي لا يتجاوز عشرة ريالات من كل صحيفة. وكبر رأس مالها واستطاعت أن تشتري صحفاً أكثر من الكشك. وتبيع الآن 150 إلى 200 صحيفة يومياً. علاقتها جيدة بالصحف. تقرأ عناوينها، والحكمة والاستراحة. وإذا جذبها عنوان تحرص على قراءة المادة الصحافية كاملة. تقول إنها مرتاحة في عملها «لأنه حر». أما زبائنها فباتوا يسألون عنها إن غابت. بكل خفة ورشاقة تنتقل يسرى بين السيارات الصغيرة والشاحنات الكبيرة. تعطي هذا الزبون صحيفته المفضلة التي تعرفها من دون أن يطلبها بالاسم، وتناول زبوناً آخر رزمة صحفه المعتادة، فهذا، كما رياض، يقرأ أكثر من صحيفة. تحفظ زبائنها، تميزهم وتميّز سياراتهم من مسافة، ومنهم من يمرّ راجلاً ويتوقف لشراء نسخته. تمشي يسرى بين السيارات حافية القدمين. تقول إنها «ترتاح هكذا في الحركة، بلا أي إعاقة من كعب صندلها البسيط»، وقد وعدت نفسها بشراء حذاء مريح عندما تتمكن من جمع المال. في ظل أوضاع اليمن الراهنة، تصمد يسرى في «ميدانها» وهو من أكثر المناطق حساسية في محافظة عدن، إذ يتجمّع فيه المتظاهرون بكثرة والشارع الرئيسي العام مقطوع، علماً أن «دوّار كالتكس» كان لفترة طويلة أشبه بالثكنة العسكرية، ومن هنا وهناك تنهمر زخات الرصاص بعدما انتشر مسلحون في الفترة الأخيرة على رغم أن عدن لم تعرف ظاهرة انتشار السلاح من قبل وهي المدينة الحضرية المسالمة... ألا يخيفها هذا الوضع؟ فتجيب: «ولماذا أخاف وما يصيبنا إلا ما كتب الله لنا؟ فإن جرى لي شيء، فربّي يعلم إنني طالبة رزق، ومن مات على حاجته فهو شهيد». وتضيف: «يوم 7 تموز (يوليو) الماضي، خرجت ولم يكن هناك أي زبون، والشارع بلا ناس، ومع ذلك بعت القلة التي مرّت بي، لم أتغيب عن العمل يوماً واحداً وأنا بخير... حتى في فترة العصيان المدني، كل سبت وأربعاء، أو أيام تسيير التظاهرات للمطالبة بالإفراج عن معتقل أو للاحتجاج على انقطاع الكهرباء أو شحّ مادتي البنزين والديزل، أكون واقفة أعمل... إلا حينما يشتد إطلاق الرصاص، ساعتها أهرب إلى أي ملجأ قريب حتى أصل إلى بيتي». كانت يسرى تحكي في أحد أيام العصيان المدني وآثار الإطارات المحروقة بادية على الأرض قربها. حلم الكشك تربط يسرى بزبائنها «علاقة أخ بأخته» كما تصفها. وحينما تضطر للغياب، كيوم وضعت طفلها، ينوب عنها زوجها في البيع، ويسأل عنها الزبائن وأحياناً يرسلون لها مبالغ أضافية بسيطة لمساعدتها. تقول إنها لم تتعرض لأي مضايقة أو تحرش لفظي أو جسدي من أحد. الجميع ينادونها «يا أختي» أو «أمي» أو «يا خالة»، على رغم صغر سنها. بعض زبائنها ينقدونها ثمن الصحف شهرياً. فكيف تحفظهم؟ تقول إن عندها في البيت دفتراً خاصاً تسجّل فيه «الديون» ولو أنها لا تعرف أسماء الكثير من زبائنها: فهذا صاحب السيارة من الماركة الفلانية، وذلك صاحب السيارة الفضية... أو هو ببساطة «الدكتور». رياض مطمئن. يبقى في البيت يرعى الأطفال. أحياناً يتناوبان. يبيع هو في الصباح الباكر، وتلحقه يسرى بعد تدبير شؤون بيتها. المهم أن يبيعا الصحف بين السادسة صباحاً والثانية عشرة ظهراً. لا تفكر يسرى في ترك بيع الصحف، وتطلب من الله أن يمدها بالصحة لمواصلة عملها وتأمين مبلغ لتحقيق حلمها بإمتلاك كشك لبيع الصحف. وحتى لو توافرت فرصة عمل جديدة لرياض، ستتدبر مربية لأولادها بالأجر اليومي، «لأن العمل في القطاع الخاص غير مضمون، وقد يتحول عاطلاً من العمل من جديد في أي لحظة»... قد تكون، إذاً، أول امرأة في اليمن تبيع الصحف في كشك، كما كانت أول بائعة صحف جوالة. والحال، إن حماسة يسرى ونجاحها حفّزا ثلاث نساء أخريات على العمل في بيع الصحف في محافظة عدن.