يربط اليمن وأهله أواصر وطيدة مع الشعوب في شرق العالم القديم وغربه، وثمة جذور لأسر يمنية كثيرة في تلك البلدان أو العكس، ومنهم الجدّة عيشة يوسف إبراهيم، ابنة الثمانين عاماً والمولودة لأبويين صوماليين. فبعد وفاة والدها، أتت من مدينة الشحر الحضرمية للعيش في عدن مع والدتها وأختها، وحصلن على الجنسية اليمنية. لكن قصة الجدّة المثيرة للاهتمام قد تكون في مكان آخر، فهي أول سائقة سيارة أجرة في عدن، والأرجح في اليمن والخليج العربي. أمضت نصف قرن من عمرها خلف مقود سيارتها، توصل زبائنها إلى وجهاتهم الخاصة داخل عدن وإلى المحافظتين المجاورتين لحج وأبين. بعد عمر في هذه المهنة، تمضي عيشة أيامها على فراش المرض، حبيسة بيتها المكوّن من غرفة واحدة أشبه بالقبو في حي «القطيع» بمدينة كريتر في محافظة عدن. وبنى لها أهل الخير عتبة مرتفعة عند باب البيت تفادياً لغرقه وأغراضه بمياه الأمطار، وكي لا يتكرر ما حصل لها عام 1993، عندما هطلت أمطار غزيرة على عدن وفقدت الجدّة عيشة كل وثائقها وأشيائها الشخصية، ومن بينها شهادات تقديرية حصلت عليها من الحاكم البريطاني لعدن ومن أسر عريقة ومؤسسات. و «عتبة أهل الخير» هذه تبدو للداخل إلى البيت كسورٍ صغيرٍ، يحل محل الباب الذي يظل مفتوحاً لتجديد الهواء، خصوصاً أن الجدّة شبه عاجزة عن الحركة، والباب المفتوح على الدوام يسهل على زوارها وجيرانها عيادتها وإحضار الطعام لها. يزورها أيضاً الفنان اليمني محمد مرشد ناجي، وأحياناً يجلب لها عشبة «القات». ابن أختها محمد في المهجر لا يزورها لكنه يرسل لها شهرياً مبلغاً بسيطاً تدبّر معيشتها به، إضافة إلى 22 دولاراً تحصل عليها من «الشؤون الاجتماعية» كل ثلاثة أشهر. وحين يشح الزوار، تخرج الجدّة إلى العتبة الخارجية للبيت، متكئة على عصاها، حافية القدمين، تتلمس طريقها إلى الدكّة الإسمنتية الأشبه بالسرير، لتمضية بقية يومها في التحدث مع المارة وأطفال الحيّ. «الصغيرة» في «الأوبل» عيشة يوسف يعرفها الجميع في عدن، ويناديها الأكبر سناًَ «عيشة عرور»، ما يعني بالصومالية «عيشة الصغيرة». كانت أشهر من نار على علم في عدن، بقوتها وصلابتها في عالم الرجال وخلف مقود سيارتها «الأوبل» باللونين الأسود والأصفر، وهي حتى الآن بلا مُنافسة من جنسها في مهنتها كسائقة تاكسي. كسبت ثقة زبائنها من أهل عدن، كما كان لها زبائن بريطانيون أيام الاستعمار الذين وثقوا بها لتنقلهم في مشاوريهم الخاصة وفي بعض مهماتهم الرسمية، وهي بدورها علّمت نفسها، بالممارسة، لغة إنكليزية بسيطة. سألناها من علّمها قيادة السيارة، فضحكت وقالت بصوتها الجهوري: «علّمني جارنا اليهودي، بسيارته، كنا في عدن نعيش في سلام ووئام مع اليهود والفرس والهنود وأهلها الطيبين، وحصلت على رخصة قيادة السيارة من شرطة المرور بعدما اجتزت الامتحان، ثم بعت كشك بيع السجائر والمثلجات الذي كنت أملكه، وزدت على المبلغ مدخرات، واشتريت سيارة الأوبل». وتتابع: «في البداية، عارض أهلي عملي كسائقة تاكسي، لكنني أصررت وكسرت العادة وعملت في مهنة خاصة بالرجال. وخلال خمسين سنة في المهنة لم أرتكب أي مخالفة مرورية، بل كنت أحترم إشارات المرور وخطوط المشاة، لا أتحدث أثناء القيادة، وفي عام 2006 زاروني من قيادة مرور عدن وكرّموني بمنحي شهادة تقدير ومبلغاً من المال، كوني أقدم سائقة سيارة أجرة في الجزيرة والخليج، ولتميزي وخلو سجلي من أي مخالفات مرورية». كانت الجدة عيشة تقود سيارتها «الأوبل»، ذات الهيكل المستدير الزوايا، أو تجلس خلف مقودها في انتظار زبائنها أمام مستشفى «الشعب - الصين» في كريتر. إلى السينما! عائلات عدنية كثيرة تذكرت علاقتها الطيبة بعيشة عرور التي كانت توصل الفتيات إلى المدرسة وتعود بهن إلى بيوتهن، كما كانت عوناً لبعض زبائنها لشراء التذاكر من سينما «بلقيس» في منطقة حقّات القريبة من سكنها، إذ توفّر على رواد السينما الوقوف في الصف أمام شباك التذاكر، خصوصاً أيام عرض الأفلام الجديدة والمميزة أو حفلات المطربين الكبار في عدن. ثم تأخذهم إلى السينما وتعود بهم إلى بيوتهم لدى انتهاء العرض الذي حفظت مواعيده. ولم تكتفِ عيشة عرور بقيادة سيارة «الأوبل»، فامتلكت أيضاً سيارة «لاندروفر»، ونقلت فيها الكثير من زبائنها في رحلات و «سيران» جماعي، أحياناً إلى محافظتي لحج وأبين حيث كانت الأسر تحب تمضية النهار وسط الطبيعية والخضرة. لم يحدث أن ضايق أي رجل الجدّة عيشة، بل كانت تحظى باحترام الرجال وتشجيعهم، وهي التي تميزت أيضاً بقدرتها على صيانة سيارتها بنفسها، فكانت تفحصها قبل انطلاقها إلى العمل، العدّة معها دائماً، وإذا لزم الأمر كانت تنزل تحت السيارة لإصلاح أي خلل. قبل سنوات، سرق أحد شباب حيّها سيارتها الخردة المركونة قرب بيتها، وكان فيها أيضاً بعض المعدات، وباعها لتجار الحديد. وهي لم تنسَ، ولا تزال حزينة. صحيح أن السيارة كانت خرِبة، لكنها أغلى ما امتلكت، وشكلت جزءاً من حياتها. تتمنى الجدة عيشة أن تمتلك كرسياً متحركاً، لتخرج به إلى ساحل «صيرة». نخبرها أن الساحل لم يعد كما كان أيام زمان، ذلك المتنفس الجميل لأهل عدن، سدّوه هو الآخر بالمشاريع التجارية الخاصة. تألمت قائلة: «نفسي أشوف ساحل صيرة الذي كتب عنه شعراً ابن حافتي (حارتي) لطفي أمان، وتغنى به (الموسيقار) أحمد قاسم، فقال: وفي صيرة تترجرج نشرب هوى كله».