صراع في إطار النظام الإسلامي وتحت سقفه، ولكنه قد يكون أكثر عمقاً من صراعات تتناقض مرجعيات أطرافها في بلاد أخرى. فالأزمة الراهنة في إيران تتجاوز الانتخابات الرئاسية المختلف على صحة إجراءاتها وسلامة نتائجها الرسمية. وما هذا الخلاف إلا الجزء الأكثر ظهوراً في جبل جليد بدأت معالمه تتضح وتكشف أن التباين في شأن الركائز المعرفية للنظام الإسلامي بات أوسع من أي وقت مضى. وأزمة هذا شأنها لا يحسمها فرض نتائج الانتخابات قسراً، ولا تنهيها محاصرة حركة المحتجين عليها في الشارع وقمعهم. فالصدع الذي أحدثته هذه الحركة في بنية النظام الإسلامي يبدو أقوى من أن يمكن رأبه من دون مراجعة بعض ركائز هذا النظام. وبالرغم من أن الخلاف على هذه الركائز ليس جديداً، ويعود بعضه إلى ما قبل الثورة الإسلامية في 1979، فهو لم يبلغ أبداً هذا المبلغ الذي قد يجعل استمرار التعايش معه صعباً. لذلك، ستظل أصداء حركة الاحتجاج «الخضراء» تتردد في داخل النظام الإيراني بعد أن دعمت مركز المطالبين بمراجعة تتيح الفكاك من أسر الخمينية، ولكن من دون مغادرة عتباتها. فالصراع الآن هو بين من يحاولون إبقاء النظام الإسلامي خمينياً، ومن يتطلعون إلى أفق أرحب عبر الانتقال إلى ما يمكن اعتباره ما بعد الخمينية. فالجميع، عدا هوامش محدودة، ما زالوا تحت سقف الجمهورية الإسلامية ونظامها السياسي. ولكن هذا لا يقلل عمق الخلاف الذي توسع إلى حد أن ما يجمعهم اليوم بات أقل مما يفرقهم. ويبلغ الخلاف غايته في الهوة التي تفصل بين تفسيرين للمبادئ الرئيسة التي يرتكز عليها النظام، إلى حد يجعلهما أقرب إلى نسقين معرفيين مختلفين بالرغم من أنهما ليسا أكثر من اجتهادين في إطار مرجعية عامة واحدة. فقد أعادت الأزمة الراهنة إنتاج الخلاف القديم على مبدأ ولاية الفقيه، وهل هي عامة ومن ثم مطلقة وفقاً لنظرية الإمام الخميني في كتابه المشهور «الحكومة الإسلامية» الصادر في 1970، أم أنها خاصة ومن ثم جزئية. وبالرغم من أن هذا خلاف قديم، فهو لم يقترن في أي وقت مضى بأزمة من هذا النوع تستمد أهميتها الخاصة من أنها كشفت في محك عملي أن وضع مصير أمة بين يدي فقيه فرد مطلقة ولايته يمثل خطراً ليس فقط عليها ولكن أيضا على مكانة الفقيه في «عصر الغيبة». فقد ظل الخلاف على حدود ولاية الفقيه كامناً ما دام المرشد الأعلى قادراً على إعطاء الانطباع بأنه ليس طرفاً في الصراع الداخلي حتى إذا لم يكن دوره كحكم بين المختلفين مقنعاً. ولكن عندما نزل من عليائه ووقف مع طرف ضد آخر بشكل اقترب من السفور، أصبح منطقياً استئناف الصراع على حدود الولاية في أجواء الرؤية الإصلاحية زخماً أكبر، وربما تمَّكن أنصارها من التطلع إلى تغيير يجعل الولاية للأمة على نفسها ولكن في الإطار الإسلامي أيضا، وليس للفقيه على الأمة. وتمتد مراجعة حدود ولاية الفقيه إلى إعادة النظر في طابع العلاقة بين الدولة والمجتمع. فلم تعد الأقسام الحديثة المتزايدة في المجتمع الإيراني، الذي يقل سن ما يقرب من ثلثي سكانه عن عمر ثورة الخميني، قادرة على تحمل قسوة الحياة في ظل دولة تهيمن على المجتمع فلا تترك له مجالاً للتنفس إلا على سبيل الاستثناء. وهذا هو طابع الدولة الخمينية القوية التي تحصر دور المجتمع في تجديد العهد مع الإمام الغائب والولي الفقيه الذي ينوب عنه. فالمجتمع، في الجمهورية الخمينية، هو سند للدولة المكلفة بواجبات دينية. ولذلك ينبغي أن يكون مشاركاً، ولكن في الإطار المرسوم له وفي حدود تنتهي حين تبدأ ولاية الفقيه. ومن هنا أهمية الانتخابات في النظام الخميني، ولكنها ليست الانتخابات الحرة التنافسية المفتوحة، وإنما الانتخابات التي تضمن استمرار دور المجتمع بوصفه سنداً للدولة. فهذا مجتمع يوصف بأنه مُؤمن وموحد. وهو يرتبط مع الدولة بعلاقة مباشرة لا حاجة في ظلها إلى تنظيمات وسيطة، ولا مكان بالتالي لمجتمع مدني فيه. وهذه قضية خلاف أساسية. فالإصلاحيون، الذين يتطلعون إلى ما بعد الخمينية، يؤمنون بأهمية المجتمع المدني الذي يثري الحياة من دون أن يتعارض مع فكرة المجتمع الموحد المؤمن، لأن إقرار التنوع والتعدد لا يقسم المجتمع بل يحافظ على وحدته بشكل أفضل. كما أنه لا علاقة، بالنسبة إليهم وإلى أي منطق، بين إيمان المجتمع وحتى تكليفه بواجبات دينية من ناحية وفرض وحدة قسرية عليه من ناحية ثانية. ومن شأن تحرير العلاقة بين الدولة والمجتمع من الإرث الخميني الثقيل أن يفتح الباب أمام مراجعة مبدأ الديموقراطية الدينية، أو ما يسميه المرشد الأعلى الحالي السيد على خامنئي «حاكمية الشعب الدينية». ولا تعني هذه المراجعة، حتى الآن، استبدال ديموقراطية تنافسية حرة مفتوحة على النمط الغربي بهذه الديموقراطية الدينية لأن التيار السائد في أوساط الإصلاحيين محكوم بسقف النظام الإسلامي. ولكن تحت هذا السقف، يمكن الحد من القيود المفروضة على الحريات والحقوق العامة والشخصية التي تحيل حياة أقسام كبيرة من المجتمع- وخصوصا نسائه- إلى جحيم لا يرى المحافظون الخمينيون فردوساً خارج نطاقه. وبالرغم مما يبدو من تناقض في نظرتي المحافظين والإصلاحيين إلى ما يعتبر خيراً وشراً على هذا النحو، فالخلاف هنا ليس على مبدأ «الخلاص المهدوي» وإنما على سبل تحقيقه أو وسائل تنزيله على الواقع. فما هذا المبدأ إلا تعبير عن معنى عام يجمع الأيديولوجيات الغائية والنظم السياسية التي تقوم على أساسها، وهو السعي إلى العالم الأفضل الذي ظل حلماً لغير قليل من الفلاسفة وأهل الفكر أصحاب «اليوتوبيات» وغيرهم على مر التاريخ. ولذلك فالخلاف في إيران، هنا، هو على تعريف هذا العالم الأفضل وكيفية تحقيقه. ولا يعترض الإصلاحيون المتطلعون إلى ما بعد الخمينية على أن العالم الأفضل ينبغي أن يكون خالياً من الظلم والاستكبار والهيمنة. ولكن كثراً بينهم يرون أن الطريق إلى هذا العالم يبدأ من الداخل، وأن بناء إيران القوية القادرة على العمل من أجل عالم أفضل يرتكز على الإنسان في المقام الأول. وهذه كلها خلافات تظل تحت سقف النظام الإسلامي الذي يستظل به الجميع، إلا قليلاً. فالصراع ليس على استمرار هذا النظام، وإنما على إبقائه تحت عباءة الخميني أو تحريره منها. وهذا صراع جد كبير... لو يعلمون.