كانت جدتي «رفعة بنت مبارك»، رحمها الله وأسكنها فسيح جناته، «ناقدة» من طراز نادر، و«النقد» بالمفهوم العامي الدارج في السعودية يعني التشنيع بالآخر، فيقال فلان «نقدوه الرجاجيل»، أي ازدروه ولاكته ألسنتهم حتى العظم، أما سر ندرة طراز جدتي فهو يكمن في أنها لم تكن سليطة اللسان، أو تتعمد إحراج الناس، بل تكتفي بترديد «لزمة كلامية» بصوت منخفض لا يكاد يسمعه أحد، هي: «يا عيباه... يا خزياه». والحق أقول إنني تذكرت جدتي، رحمها الله، ولزمتها الأثيرة أمس الأول، عندما اطلعت على كلمات كاتب سعودي عبر حسابه في موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، مهاجماً المثقفين والمثقفات من بني جلدته، وواصفاً ما دار بينهم خلال لقاءاتهم على هامش الملتقى، الذي نظمته وزارة الثقافة والإعلام أخيراً، ب «الخزي والعار». جدتي، رحمها الله، كانت امرأة قروية بسيطة، انتقلت للعيش في المدينة بعد كبر سنها، ونتيجة لذلك أصيبت، مثلها مثل غيرها من نساء القرى اللاتي لم يعشن الحياة المدنية، بما يمكن وصفه ب «الصدمة الحضارية»... لزمتها الأثيرة كانت تصدر فوراً وبلا شعور عند مشاهدتها لأي امرأة لا تشبهها في الملبس، أو في طريقة الكلام، وما إلى ذلك، ومعظم الظن أنها حال مشابهة تماماً للحال التي وجد فيها أخونا الكاتب نفسه، وهو يتجول في بهو فندق «الماريوت» في الرياض بين المثقفين والمثقفات، الذين لا ينظرون له كمثقف مثلهم، فهو مصنف في ساحة الورق والوراقين ك «كاتب خدمات سطحي وغلبان»، وربما تحسس هذا الغريب من نظرات، أو كلمات أولئك المثقفين، وربما أيضاً «سلقه» أحدهم بكلمتين ساخرتين بشكل فجر في داخله طاقة سلبية دفعته للهرب إلى الخلف والاصطفاف مع جوقة المصابين ب «فوبيا الحياة المدنية» من المتطرفين دينياً، وأعداء المشاريع الحضارية، الذين لم يبقوا أي مؤتمر أو منتدى في السعودية إلا وأطلقوا بعده «لطمياتهم» القميئة التي تتطاول بكل دناءة على أخلاق وأعراض الناس وسمعتهم بغطاء ديني مزعوم، أو أخلاقي مصطنع، والشواهد على ذلك كثيرة، فلا يزال المجتمع يذكر موقفهم من المنتديات الاقتصادية، وتشنيعهم بمركز خديجة بنت خويلد في جدة، وموقفهم كذلك من جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا «كاوست». صاحبنا الكاتب المصدوم حضارياً لا يُلام على الأزمة النفسية التي عاشها، ولا اللطميات التي وجد نفسه مضطراً لممارستها، فهو برأيي مجرد ضحية لمن وجه له الدعوة ووضعه في هذا المأزق، إنه بحاجة للعلاج من آثار الصدمة ليتمكن من الانخراط في «الحياة المدنية» أكثر من حاجته «للنصح والتوجيه»، لكن المؤسف أنه وجد من يعزز فيه الصدمة و«عاش جو البطولة»، بعد أن طبل لعباراته أعداء الدولة وسياستها، الذين يتدثرون غالباً بلباس الدين جبناً وخبثاً، فيما هم في الواقع مجموعة من المتخفين خلف رايات ما يسمونه ب «الاحتساب»، ولن يجد من يتابعهم أحداً أحب إليهم من رموز الإرهاب وفلول «القاعدة وطالبان»، وسيجدهم دائماً وأبداً رافعين شعارات من يعيشون خارج التاريخ في سبيل إحياء دولة الخلافة «الإخوانية». صاحبنا الكاتب المصدوم سيستفيق بعد عام أو عامين أو أكثر من غيبوبته العقلية، كما استفاق غيره ممن عاشوا أزمات نفسية مشابهة، وصداماً مع المجتمع والحياة المدنية، وسيدرك حتماً أنه تم استغلاله واستخدامه كأداة لضرب وتشويه سمعة برامج الدولة وسياستها، وحينها سيقرأ هذه الكلمات بغضب أقل بكثير من غضبه الذي سيصاحب قراءته الأولى لها. [email protected] twitter | @Hani_AlDhahiry