أمعنت القوى السياسية في تمزيق النسيج الداخلي اللبناني، وباتت أنظارها مشدودة إلى الخارج، الذي كان وما زال مصدر شكاوى أطرافها، وموضع اتهاماتها. منعقد آمال المنتظرين اليوم، ما قد تحمله التطورات الإقليمية، في حلقتها الإيرانية البعيدة، وما قد تسفر عنه الأحداث الدامية، في الميدان السوري القريب. ... لكن الانتظارية اللبنانية ليست محايدة، بل متدخلة، ولأن أوهاماً كثيرة يعلقها أبناء الداخل على نتائج الخارج، فإن هؤلاء يظهرون في مظهر العجول، الذي لا يطيق تباطؤ تراكم التطورات، ولا يحتمل مهل انتقالها من «تطور كمي إلى تبدل نوعي». هكذا انتظارية تحمل في طياتها جملة من الرغبات، وتفتقر إلى دقة الحسابات، وكثيراً ما تتخلى عن عقلانيتها الموضوعية، طالما أن الهدف الأساسي من كل انتظار، لا يتعدى مطلب الفوز على الخصم في الداخل، ولو بأغلى الأثمان... ولطالما كانت الأثمان غالية، في السياسة اللبنانية. على ضفتي الخصومة السياسية، تتبادل الأطراف سياسة اللاعقلانية، حيث يظهر ذلك في مواقفها من مختلف المواضيع المطروحة، داخلياً وخارجياً. التباين حول تصنيف هذه الدولة أو تلك، يقدم نموذجاً عما نذهب إليه. لو اعتمدنا المثل الإيراني، استطعنا تبيان الاختلاط السياسي حوله، بدءاً من تعريف الوضعية الإيرانية، وانتهاء باقتراح السياسات الواقعية حيالها. أغرب ما يواجهنا في هذا المجال، وضع إيران في الخانة الإسرائيلية نفسها، من قبل مناوئيها، أو جعلها حليفة دائمة للعرب والعروبة، من جانب حلفائها. الأمران ينفيان السياسة الإيرانية، ولا يناقشان حقيقة المصالح المشروعة الممكنة، للجار الإقليمي «القلق والمقلق»، ويسقطان واقع الطموحات المستحيلة لهذا الجار، وتجاوزاته على الأوضاع العامة لجيرانه. ومع هذا وذاك، يضيع النقاش الجدي، حول المصالح الداخلية الوطنية، والعربية من قبل المنشغلين بالأوضاع الإيرانية، والمشتغلين عليها. سورية نموذج آخر حيوي وحار. بعض اللبنانيين يستعد لرفع «شارة النصر» وللاحتفال بأيامه، ما إن يعلن النظام السوري نجاحه في معركته «ضد المؤامرة الخارجية»، وبعض آخر يستعد لإحياء ليالي الفوز بالمعركة، ما إن يخرج المعارضون على الملأ ب «بيان التحرير الأول ومباشرة بناء الديموقراطية»، على الطريقة السورية. تتبادر إلى مقام الوضعية هذه، خلاصة أساسية تغيب عن بال «المحتفلين المستقبليين»، مؤداها: أن النصر بمعناه الفكري والاجتماعي والسياسي، وبمضامينه الوطنية العامة، لن يكون من نصيب طرفي الصراع في سورية، بل إن الهزيمة الداخلية، للمجتمع السوري، هي الحصيلة المنتظرة، حتى تاريخه، وأن «المجهول» ما زال الأوفر حظاً، ضمن معطيات «المعلوم» من وقائع ميدانية. الخسارة العامة، في الوضعية السورية، تفترض أن تكون خسارة موضوعية في كل بلد عربي، هذا إذا اعتمد مقياس «الأمن القومي»، الذي ما زال يقود تحليلات كثيرين ومواقفهم، لكن ما هو أكيد، تأسيساً على التجربة اللبنانية، أن الخسارة لدى «الشقيق الأكبر»، ستكون خسارة خاصة لكل من أطراف النزاع في لبنان، ولن تكون ربحاً صافياً لأي منها في المعادلة الداخلية. سبق وجربت القوى السياسية في محطات داخلية لبنانية مهمة، لكنها فشلت في الفوز بكل الداخل، لأن ما عرضته عليه لم يتجاوز منطق تكريس غلبتها الفئوية. للتذكير، كان اتفاق الطائف محطة ضائعة، ألحق بها إنجاز انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب، وانضمت إلى ما سبق، واقعة خروج الجيش السوري من لبنان، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أثبت اللبنانيون، بجدارة، أنهم في كل «حفلة قطع رؤوس» يسارعون إلى مدّ أعناقهم! ويتصرفون بما يعاكس حكمة «الاختباء عند تبدل الدول». ومرّة أخرى، العقلانية السياسية، تتطلب وجود قوى اجتماعية عقلانية، وهذا ما يفتقر إليه الوضع اللبناني، المرشح للإفقار المتزايد على هذا الصعيد. ولأن الأخلاق يجب ألا تغيب عن السياسة، ولأنه يجب عدم التسليم بتغييبها، وجب القول إن من الأخلاق إعلان لا أخلاقية كل نظام يبادر إلى قتل شعبه، ولا أخلاقية كل معارضة تخرج عن واجباتها الوطنية العامة، فتتحصن بفئوياتها الدينية وغير الدينية. أما الخلاصة الأجدى فتبقى متمثلة في: أن الانحياز إلى قوى التغيير في مواجهة أنظمتها يشكل سقف الموقف البديهي، لكن الانحياز هذا ليس أعمى، بحيث يلتحق بكل القوى، بالبداهة!... هذا التمييز الضروري، هو مما لا تحسنه «الانتظارية» اللبنانية، لأن أغراضها تحدد ضروراتها. وكما قيل: لا تناقش صاحب غرض.