العلاقة الحالية بين سورية والعراق، لا تحجب تاريخ الخصام السياسي الطويل، وتصريحات الإيجاب العراقية، المتعلقة ببعض تجليات الأزمة السورية، لا تلغي وقائع السلب، التي تردد صداها حتى الأمس القريب، علانية، ولعله ما زال يتردد في غرف «الصوت» المغلقة. قام بين البلدين حزب واحد، واستمرت بينهما خصومة دائمة. تغذي الخلاف، الذي لم يضع العصا عن كاهله إلا قليلاً، من النظرة إلى دور كل من البلدين، ضمن المنظومة العربية، وعلى خريطة القضايا الإقليمية الصراعية، هذه التي كانت تحمل عناوين فلسطينية وتركية وإيرانية... وفي مواجهة «الإمبريالية والاستعمار». تقدمت سورية على العراق بسبب وجودها على تماس خط الطوق مع العدو الإسرائيلي، ولم يسلم العراق بهذا التفوق الجغرافي، لأنه صنف البلد عمقاً استراتيجياً «للطوق»، ومدى حيوياً له. لكن الوجود على خط تماس الأزمات، مع ما رمز إليه من أفضلية موضوعية، تبدل عندما هدأت جبهة الجولان، واشتعلت الحرب مع إيران. انتقلت الصفات ولبست لبوساً آخر غير ذاك الذي كان لها، ومع هذا الانتقال صار قائد البعث العراقي، حارساً للبوابة الشرقية الملتهبة، وصار قائد البعث السوري حارساً للهدوء على جبهة الصراع في الجولان السوري المحتل، الذي هو تماس سورية مع قضية فلسطين العربية. وما زاد الأمور تفاقماً، إعادة قراءة أحكام الدور الذي تمسك به الرئيس الراحل حافظ الأسد، فانتقل إلى مساندة إيران في حربها، فكان تغطية عربية مثلى في وجوه النعوت الفارسية، الصادرة من الجهة العراقية، وظلّ صوتاً إيرانياً لدى دول الخليج، تقول نبراته أنه يستطيع لعب دور في درء الخطر الإيراني المفترض، عن ديارها. خففت حرب تحرير الكويت من حدة احتقان العلاقة السورية – الخليجية عموماً، لكن النتائج عادت لتراكم عناوين احتقان أخرى، تغذت دائماً من النظر السوري إلى دور سورية في المنطقة عموماً، وإلى المصالح العامة التي قد تنجم عن اعتمادها لاعباً إقليمياً معترفاً به، من قبل المرجعية الدولية. أدى انفجار العراق، بعد إسقاط نظام صدام حسين إلى نقل الأمور إلى منطقة سياسية مغايرة، بخاصة بعد تنامي واستقرار العلاقة السورية الإيرانية، داخل العراق، وعلى كامل الرقعة الجغرافية، التي اعتبرت مجالاً سياسياً حيوياً لكل من الحليفين «المتجددين». المذهبية في العراق في العراق المتفجر، تقدمت المذهبية على ما سواها، وباتت سورية طرفاً فيها، من موقع دعم المعارضة الموسومة «بالسنية» السياسية، ومن وضعية دعم الحكم، الموسوم بهيمنة الشيعية السياسية لاحقاً. ولم يقتصر الأمر على رفض انحياز السياسة السورية إلى مذهبيات داخلية، بل طال الرفض طيف «النزعة الوطنية العراقية»، التي نهضت في مواجهة محاولات الإلحاق، الإيرانية، وعلى الضد من سياسات الاستتباع التي سهلتها المساومات الأميركية مع إيران، ويسرت لها منوعات البنية العراقية، التي تدمج علاقات موروثة، من القبلية والعشائرية والدينية. بمعنى متحفظ، قاوم النزوع الوطني العراقي، سياسة الإطاحة الداخلية والخارجية، بما حقق العراق من اندماج اجتماعي، في ظل الديكتاتورية السابقة، لأنه رأى في نتائج تبديد «إنجازات الاندماج»، مقدماتٍ لإصابة بنية الكيانية العراقية، وتهديد مصير ديمومتها، وإلغاء احتمالات تعافيها. في كل هذه المطارح، المذهبية والوطنية، كان النظام السوري خصماً متلاعباً، وكان دوره يتضائل من لاعبٍ سياسي أول، إلى تابعٍ أول للسياسات الإلحاقية الإيرانية. كحصيلة عامة، لا تشكل الذكريات السياسية بين العراق وسورية، مرجعية إيجابية للعلاقة بين البلدين، بل إن عنوان الخلاف على اختلاف درجات حدته، ظلّ هو الطاغي. لا تحتل سورية مكانةً مفصلية مقررة في الشأن العراقي على غرار ما هو الوضع في لبنان، على سبيل المثال. للدلالة على ذلك، تسهل ملاحظة أن العراق عاش من دون روابط سورية طويلاً، وهو قادرٌ على أن يفعل ذلك الآن، عندما تصير الحساباتُ حسابات أوطان وإمكانات، وعندما تطرح المواضيع وفق منظور الاستقلالية المطلوبة، والاتصال الضروري. على هذا الصعيد يمكن تكرار القول إن سورية في العراق ليست شأناً داخلياً، يعيد طرح إشكالية كم الداخل العراقي داخلاً سوريةً؟ وكم الخارج السوري داخلاً عراقياً؟ ليست المسألة مسألةً وجودية، ولا ترتبط بمعضلة كيانية خاصة تجمع البلدين، جل ما في الأمر، حالياً وفي الماضي غير البعيد، أن العراق المتبادلة، قامت على سياسات آنية متبدلة، كانت تفاهم القصير سمة لها أحياناً، وكان سوء التفاهم، بل الخصام الطويل والشديد، سمتها الغالبة. الآن، وفي ظل الانفجار السوري، المتتابع فصولاً، تنفتح العلاقة السورية - العراقية على موروثاتها، مثلما ترتبط بآنياتها. في الموروثات، وكما تقدم، يستمر النزاع على تعريف موقع كل من البلدين، وعلى أهميته، وعلى أولوية مصالحه. ومن الماضي، لا يقر العراقيون بغالبيتهم، بقيادية حزب البعث، ولا بريادية القائد الأوحد، ويظهرون ارتياحاً لخلاصهم من كل الإيديولوجيا، التي شرعت العراق أمام الأطماع والتدخلات الأجنبية. ومن الماضي – الحاضر، أن النفوذ الإيراني مرفوض عراقياً، على صعيد موضوعي، ولا تجمله عبارات «مقاتلة الاستكبار العالمي»، ولا تعطيه شرعية وطنية عراقية عامة، مطابقته المذهبية مع مذهبيةٍ داخليةٍ غالبة. إلى ذلك فإن «إسلامية» الخطاب الإيراني، التي تحاول شرعية جمعية، ما فوق محلية – إقليمية، تعاني من وقائع التفنيد اليومي، في السياسات المتبعة على مستويات إقليمية، وفي الديار العربية. كل ذلك، يضع السياسة السورية في موضع الطرف المناوئ، وفق القراءة العراقية، لأنها ما زالت في موقع الحليف لمجمل السياسات الإيرانية. بالتساوق مع ما تقدم، يتوزع العراقيون النظرة إلى الأوضاع السورية، انطلاقاً من حسابات المصالح المباشرة، من دون أن يكون لهم قرار الحسم الأخير، في ظل تغلغل النفوذ الإيراني في كواليس صناعة قراراتهم الداخلية. ولأن الأوضاع الداخلية العراقية متفجرة، مثل شقيقتها السورية، فإن توزع النظرات سيبنى عليه توزع السياسات والإنشطارات. ما هو مؤكد، والحال ما نذهب إليه، نشوء انتظارية عراقية، تواكب عنفياً، مجريات العنف السوري، وسياسة ترى في زوال النظام في سورية، فرصة لتثقيل موازينها في مواجهة أندادها الداخليين، وفي معارضة جارها «اللدود»، القادم من الجهة الإيرانية. إنتظار دامٍ! نعم، فكل الإنتظارات العربية دامية، والربيع يتأخر كثيراً حتى يدخل من كل الأبواب، السورية والعراقية... والعربية عموماً. * كاتب لبناني