السياسة اللبنانية مثل الفن التشكيلي، لا أحد يفهمها ولا أحد يفهمه، ثم لا يعترف أحد بعدم الفهم كي لا يُتهم بالتخلف السياسي أو الحضاري. عجزت عن فهم حملة في البرلمان لرفع الحد الأدنى للأجور من 500 ألف ليرة في الشهر إلى 868 ألف ليرة، فالبلد في قبضة أزمة مالية، أو أزمتين محلية وعالمية، والخزينة لا تستطيع دفع الحد الأدنى الحالي للأجور، ويأتي من يريد رفعه. هذا أسلوب تشكيلي في السياسة، ولا تشكيلي حتى لا أشكيلك. لم أكن في لبنان للفهم أو للشكوى وإنما هو الحب القديم الباقي للبلد وأهله، وأريد أن أودع هذه السنة وأستقبل السنة المقبلة بما لا ينغّص عيش القارئ. المواطن القديم مثلي يعود سائحاً ثم يجد نفسه معجباً بأشياء لم تُثِرْ اهتمامه أيام كان مواطناً يحلم بالسفر إلى الخارج، وهو الآن يحلم بالعودة. في مطعم على غداء مع زوجتي وابنتي وجدت الدكتور اياد علاوي رئيس وزراء العراق السابق، وجميلة الجميلات هيفاء وهبي، كلاً على طاولة مع أصدقائه. كانت هناك هيفاء أخرى من صديقات العائلة، ورونا ونايلة ورلى وتحدثنا جميعاً أكثر مما أكلنا. هل يمكن أن أحظى بمثل هذه الجلسة في لندن أو باريس؟ لا أعتقد أن ذلك ممكن ولو عشت عمر لبد، نسر لقمان. انتقلت من المطعم إلى الأسواق الجديدة التي تحمل أسماء الأسواق القديمة. وأجدني مضطراً إلى تصحيح بعض تاريخ بيروت فقد داخَله خلط أو اختلاط. بيروت القديمة، أو الأصلية، كانت لطائفتي المسلمين السنة والمسيحيين الأرثوذكس (مع أقلية درزية في رأس بيروت، وأرمن في الضواحي). وكانت الأسواق التجارية مقسومة بين الطائفتين، فسوق الأقمشة مثلاً للسنة، وسوق الذهب للأرثوذكس. واليوم أجد أن سوق الذهب نقلت كلها من محاذاة ساحة البرج إلى الأسواق الجديدة على بعد حوالى كيلومتر، وأصبحت أسماء أصحاب المتاجر مختلطة وبعضها أجنبي يعود إلى «ماركات» عالمية معروفة. أرجو أن يعذرني الموارنة والشيعة، وأنا لست من 14 آذار، ومع ذلك أقول إنهم «جدد» على عاصمة لبنان، فالموارنة نزلوا من الجبل إلى بيروت بعد الاستقلال، والشيعة تبعوهم بعد عقدين أو ثلاثة، وكان انتشارهم إلى جنوب العاصمة القريب من تجمعات شيعية قديمة، وتحديداً في برج البراجنة والغبيري وجوارهما، أي المتن الجنوبي لا بيروت. هذا تاريخ عاصرته بنفسي، لا سياسة، وبلدية الشياح كانت مارونية كلها إلا أنها خارج بيروت، وفي البلدة الآن غالبية شيعية. هناك أشياء زالت، ولكن لا أزال أذكر موقعها، مثل «قهوة القزاز الجديدة» في ساحة البرج، ولم يكن فيها لوح زجاج واحد غير مكسور، فأرضها أصبحت من ضمن جامع محمد الأمين الذي أعيد بناؤه بعد الحرب، مع توسعة كبيرة. ولكن أين مكان مسبح الحج داود؟ هو ضاع عني تماماً في ردم البحر وشق الطرق الواسعة، ولكن بقي في الذاكرة منه «القرع» الكبير المجوّف والمجفّف الذي كان يستخدم مثل «عوامات» طافية قبل زمان البلاستيك. هناك شيء جديد قديم يحمل اسم «الزيتونة»، أو المطاعم والمقاهي المحيطة بمارينا فندق سان جورج، وقد أخذتني ابنتي بعد ظهر يوم خلت سماؤه من الغيوم واخترنا مقهى جميلاً سرعان ما لاحظت أنه يحمل اسم لينا، ما يعني أنه من شبكة عالمية مماثلة، بدأت في فرنسا وتملكها الأخت الحبيبة لينا كامل مروة، وهي الآن سيدة أعمال ناجحة. كانت لينا بين أجمل بنات جيلها، وهي تودع المراهقة، ولا تزال حسناء وشابة. وأذكر أياماً كانت تدخل صالة التحرير في «الديلي ستار» وتقف أمام مكتبي وتقول ضاحكة: شوف كيف المحررين بطلوا يشتغلوا. كانوا يرونها فينصرفون عن العمل، ومع أنني لم أرها منذ سنوات إلا أنني أرجح أنها لا تزال تدير الرؤوس. وتبع ذلك صدفة غريبة فقد عدت إلى البيت، وفتحت الإنترنت على «نيويورك تايمز» وبدأت بخبر عربي فوجئت بأن دعاية مرافقة له تقول «أنت التالي بعد لينا مروة» وهناك صورة لشابة حسناء محجبة ليست للينا التي أعرف. الدعاية تقول: تستطيعين أن تكوني لينا مروة جديدة، وهي صادرة عن مسابقة خطة البزنس العربية التابعة لمعهد مساتشوستس للتكنولوجيا، والجائزة في الهندسة أو التعليم أو البيئة، وقيمتها 65 ألف دولار. أرجو لكل شابة عربية النجاح الذي تستحق. [email protected]