ثمة ما يلفت الانتباه في التصريحات التي أدلى بها خالد مشعل أخيراً، والتي نمّت عن روح تصالحيّة مع الواقع، ومع الممكن، بخاصةٍ ما تعلّق منها بإشادته بنمط «المقاومة الشعبية»، التي شبّه فيها حركة الشعوب ب «الماء الذي يتحوّل إلى تسونامي»، والتي ذكّر فيها بنمط الانتفاضة الشعبية الأولى (وليس الثانية المسلّحة)، التي يفترض أنها الأثيرة على حركة «حماس»! حسناً، هذه وجهة نظر جيدة وضرورية وجريئة، وينبغي البناء عليها، لكنها أتت جدّ متأخّرة، فضلاً عن أنها لم تأت نتيجة تولّد قناعة ذاتية ناجمة عن دراسة للواقع الفلسطيني، أو عن مراجعة نقدية للتجربة المعاشة، وإنما بدفع من الثورات الشعبية العربية، وبنتيجة تحوّل حركة «حماس» إلى سلطة (في غزّة)، وأيضاً بعد تآكل قدرتها على انتهاج المقاومة المسلّحة؛ في الضفة وفي غزة أيضاً. ومشكلة «حماس» هنا هي مشكلة الحركة الفلسطينية ذاتها بمجملها، التي تعتمد في تحديد خياراتها الوطنية وقراراتها السياسية وطرق عملها على العواطف والشعارات ومزاج القيادات، لا على القراءات الموضوعية وحسابات الجدوى، والتفاعلات في الأطر الشرعية أو التمثيلية، في واقع ليس ثمة فيه مراكز لصنع القرارات، ولا هيئات تمثيلية، ولا مؤسّسات بحثية، ولا إطارات تراجع أو تحاسب. فمنذ زمن طويل كتب وقيل الكثير باعتبار المقاومة الشعبية (على نمط الانتفاضة الأولى) بمثابة الشكل الأنجع لمقاومة الاحتلال، في ظروف الفلسطينيين الخاصّة، لكن قيادة «حماس» كانت في واد آخر، باعتبارها أن المقاومة المسلّحة، وفق نمط عمليات التفجير والقصف الصاروخي، هي الشكل الأنجع لاستعادة الحقوق؛ إلى درجة أنها تحدثت، في حينه، عما يسمى «توازن الرعب» الذي تطمح الى إحداثه مع إسرائيل! الأنكى من ذلك أن أصحاب وجهة النظر القائلة بحصر المقاومة بانتهاج العمل المسلح كانوا يسفّهون المقاومة الشعبية ويرون القول بها قرين روح انهزامية واستسلامية وأحياناً خيانية! وها نحن الآن، فما ان قال خالد مشعل بتحوّل «حماس» نحو المقاومة الشعبية حتى تذكّر كثيرون هذا الشيء، وتذكّروا معه عنفوان الانتفاضة الأولى، ما يذكّرنا بأصحاب الفتاوى ومريدي «الطرق»، من دون أي مراجعة للتجربة الماضية، وضمنه مسؤولية «حماس»، عن هذا الاستخفاف بقيمة المقاومة الشعبية، وضعف شيوعها في علاقة الفلسطينيين الصراعية مع إسرائيل. وفي الواقع، فإن الفلسطينيين ما كانوا بحاجة إلى تبادل الاتهامات ولا الاختلافات والانقسامات كي يثبت كل طرف وجهة نظره، بشأن الخيارات الوطنية الأنسب والطرق السياسية الأكثر ملاءمة لظروفهم وإمكاناتهم، لو إنهم احتكموا الى الأرقام والإحصاءات والمعطيات والتجارب لتفحّص جدوى هذا الطريق أو غيره. وفي المقارنة بين تجربتي الانتفاضة الأولى (1987-1993) والثانية (2000-2005)، يمكننا ملاحظة أن نمط المقاومة الشعبية هو الذي طغى على فعاليات الانتفاضة الأولى، التي تخللها أيضاً بعض عمليات المقاومة المسلحة ضد العسكريين والمستوطنين الإسرائيليين في الضفة والقطاع، ونتج منها مصرع 383 منهم في ستة أعوام (بمعدل 65 في العام وهو اعلى من معدل قتلى إسرائيل في جنوبي لبنان جراء المقاومة والذي بلغ 46 جندياً في عام في الفترة من 19822000). ففي هذه الانتفاضة استشهد حوالى 1600 من الفلسطينيين (بمعدل 270 شهيداً في العام)، وجرح واعتقل حوالى 250 ألفاً منهم، ما يدلّل على انخراط الشعب كله في المقاومة والانتفاضة. مع ذلك وبهذا الثمن، فإن هذه الانتفاضة هي التي عمّقت الشرخ في المجتمع الإسرائيلي بين يسار ويمين وشرقيين وغربيين ومتدينين وعلمانيين ومؤيدين للتسوية ومتطرفين، وبيّنت للإسرائيليين مخاطر الاستيطان، وجلبت تعاطف العالم مع نضال الشعب الفلسطيني، كاشفة إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية ودينية، ما مكّن من وضع فلسطين على الأجندة الدولية والإقليمية. في المقابل، فإن الانتفاضة الثانية كفّت عن كونها انتفاضة شعبية منذ أسابيعها الأولى، إذ طغت عليها العسكرة، وباتت مقتصرة على عمليات المقاومة المسلحة التي أدّت إلى مصرع حوالى 1060 من الإسرائيليين. في هذه الانتفاضة استشهد حوالى خمسة آلاف من الفلسطينيين، مع جرح واعتقال عشرات الألوف، وتدمير البنى التحتية في الضفة والقطاع. لم يكن هذا هو كل الثمن الباهظ، فقد دفع الفلسطينيون ثمناً باهظاً أكثر جراء التداعيات التي نجمت عن هذه العمليات والتي تمثلت بإضعاف التعاطف الدولي مع قضيتهم، والتشويش على عدالتها، وبتوحيد الإسرائيليين من حول قيادتهم، وطمس التباينات بينهم. الآن، ربّ قائل إن لكل شيء ثمناً، وأن ثمة ثمناً للحرية، وهذا مفهوم، ولكن المشكلة في هذه الحالة أن الفلسطينيين دفعوا أكثر مما يجب، وأنهم لم يحقّقوا أياً من أهدافهم، بل إنهم على العكس من ذلك ضيّعوا الكثير من منجزاتهم، والأنكى انهم سهّلوا لإسرائيل الإمعان في البطش بهم في هذه الظروف. وكان من شأن تشبث الفلسطينيين بنمط الانتفاضة الشعبية الأولى أن يجنّبهم كل ذلك، بما في ذلك الاحتفاظ بقواهم، وعدم استهلاك طاقتهم بطريقة غير مدروسة، ما يفوّت على إسرائيل استخدام القوة المفرطة لجيشها في ضرب قوى الانتفاضة والمقاومة وتدميرها، بحيث بات الفلسطينيون اليوم مكشوفين من دون أي مقاومة، ولو من نوع المقاومة الهادئة، في الضفة وفي غزة، في حين باتت إسرائيل وهي في أقصى يمينيتها وعنصريتها واستعماريتها تعيش واقعاً من الاحتلال المريح! ولعل من المفيد التذكير هنا بأن ما حصل في تجربة الانتفاضة الثانية حصل سابقاً في ثورة 1936 - 1939، التي بدأت على شكل انتفاضة شعبية، بزخم إضراب استمر قرابة ستة أشهر، ثم طغى عليها بعد بضعة أشهر طابع المقاومة المسلحة. في حينه، فإن الشعب الذي بالكاد كان يتعرّف الى الحياة الحزبية، والى معنى المقاومة الشعبية، وجد نفسه في معمعان مقاومة مسلحة تخوضها مجموعات غير مترابطة، ومن دون قيادة وطنية واحدة، ومن دون ارتباط بإستراتيجية سياسية متوافق عليها. وبالنتيجة فقد تورّط الفلسطينيون حينها بزجّ كل طاقاتهم في الصراع ضد القوات البريطانية، في ظروف غير متكافئة، وبطريقة غير محسوبة. وكانت النتيجة سبعة آلاف شهيد (وعشرين ألف جريح وخمسين ألف معتقل)، من شعب لا يتجاوز المليون. وحينها بلغ عدد الأسلحة المصادرة من الفلسطينيين، وفق المصادر الرسمية البريطانية: 6371 بندقية و3220 مسدساً و1812 قنبلة و 425 بندقية صيد. وبديهي أن المستوطنين الصهاينة هم من استثمر هذا الوضع لتعزيز مكانتهم، وبناء مؤسساتهم (الموشاف والكيبوتزات والهستدروت ومؤسسات التعليم وشراء الأراضي والهاجاناه وشتيرن وغيرها). وهكذا عندما أزفت اللحظة المناسبة (1948) كان الفلسطينيون يفتقدون السلاح اللازم، الذي سحب منهم سابقاً، كما أن قياداتهم كانت مشرّدة في المنافي. أما الكادرات المناضلة المجرّبة فإما استشهدت أو أودعت السجون، أو غادرت فلسطين؛ ما فتح الوضع على الفوضى، وأضعف مقاومة الفلسطينيين للعصابات الصهيونية، التي عملت على اقتلاع معظم شعب فلسطين، من أرضه، وتشريده. هكذا، فإن مشكلة الفلسطينيين، على غنى تجربتهم، أن قضيتهم تكاد تضيع من بين أيديهم فيما هم أسرى مجادلات «بيزنطية»، بحيث يصحّ فيهم قول الشاعر: «كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول». * كاتب فلسطيني