ثمة نوع من التناقض، وربما الخفّة أيضاً، في التعامل مع الوضع الفلسطيني الراهن، من قبل المعنيين والمهتمين والمراقبين، كما من المعارضين والموافقين، عن دراية أو من دونها. فعلى الصعيد السياسي، ثمة من يدعو القيادة السائدة (وهي قيادة المنظمة والسلطة وفتح) إلى وقف العملية التفاوضية، وكذا حل السلطة. وثمة دعوات تطالب بالعودة إلى خيار الكفاح المسلح، أو بإطلاق انتفاضة جديدة، والتخلي عن خيار إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع. وثمة، أيضا، دعوات الى تبني حل الدولة الواحدة (العلمانية الديموقراطية)، وكذا استعادة البعد العربي («القومي») للقضية الفلسطينية، وطرح القضية في الأممالمتحدة. وعلى الصعيد الداخلي ثمة دعوات لإعادة تفعيل أو بناء منظمة التحرير، واستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإعادة اللحمة للسلطة (في الضفة وغزة)، وكذا تخلي حركتي «فتح» و«حماس» عن وضعهما كسلطة (في الضفة وغزة)، وإعادة الاعتبار لوضعهما كحركتي تحرر وطني. المشكلة مع كل هذه الدعوات ليست في مشروعية كل واحدة منها، أو في صحتها، فهذا نقاش آخر، وإنما تكمن في مدى ملاءمتها للواقع المعاش، وفي إمكان توافر الإمكانات المناسبة والمعطيات الملائمة لها. والمشكلة، أيضا، في تحول هذه الدعوات إلى نوع من أيقونات ويقينيات وشعارات ثابتة في الوضع الفلسطيني، بغض النظر عن قدرته على حملها أو استطاعته تحملها، بعد كل ما مر به من تجارب وتحولات. فالمسألة لا تتعلق فقط بالرغبات، أو بالإرادات، ولا بصحة خيار بالقياس لآخر، كما قد يعتقد البعض، وإنما بملاءمة خيار ما للواقع الراهن، وضمن ذلك توفر الحمولات المجتمعية، والعوامل المادية والمعنوية والمعطيات السياسية الملائمة له. وفي حال طبّقنا هذه الحسابات على الخيارات التي ذكرناها وجدنا أنفسنا في حالة تناقضية، وكأننا في واد بينما الواقع في واد آخر، أو إننا سنكون في حالة مريعة من السذاجة أو المراهقة، وكذا المخاتلة والتلاعب السياسيين. فمثلاً، مطالبة القيادة الفلسطينية بالانسحاب من الحالة التفاوضية، أو حل السلطة، أو التخلي عن حل الدولتين، تأتي فقط ضمن باب تسجيل المواقف (على أهميته)، علماً بأن الجميع يدرك أن هذه القيادة، في تلك الأحوال، ستفقد مبرر وجودها، وأنها لا تملك أصلاً هذا الخيار، بحكم ارتباطها بألف خيط وخيط بتداعيات العملية التفاوضية والتسوية، وعلماً ان ثمة قوى نافذة في السلطة باتت معنية باستمرار هذا الخيار بأي شكل وبأي ثمن كان. ولا يهم هنا مآل المفاوضات الجارية إذ أن الواقع الراهن سيستمر، بشكل او بآخر، سواء توصل الطرفان المتفاوضان إلى توافقات سياسية أم لا. الأنكى أن حمل هذا المطلب من قبل القوى المعارضة ينطوي على نوع من «التشاطر»، أو المخاتلة والتلاعب، فهذه القوى (بحسب خطاباتها) كانت نفضت يديها منذ زمن بعيد (اقله منذ عقدين)، من هذه القيادة وخياراتها. والمفروض أن هذه القوى بعد هذا الزمن باتت هي أيضا في موضع التساؤل والمساءلة عن السياسات التي أنتجتها والخيارات التي استطاعت أو لم تستطع توليدها، بدل ستر عجزها بمجرد مطالبات ورفع شعارات. في هذا المجال، يمكن تحميل القيادة السائدة مسؤولية إخفاقها في استثمار خيار المفاوضات، نسبة لارتهانها له كخيار أوحد، وعدم توظيفها له في فضح طبيعة إسرائيل كدولة استعمارية وعنصرية وقهرية، لا تلقي بالاً للأعراف والمواثيق الدولية. وفي المقابل، ايضا، ثمة من يتحمّل مسؤولية تضييع وتبديد خيار المقاومة، بكل أشكالها، بسبب التركيز على المقاومة المسلحة، لا سيما وفق نمط العمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، وبسبب احتكار الفصائل (لاسيما فتح وحماس) للعمل السياسي واحتلالهما كامل المشهد الفلسطيني تقريباً. هكذا، وبسبب السياسات أو اللاسياسات الفصائلية، فالشعب الفلسطيني غدا بين خيارين، لا يعرف أو لا يمتلك غيرهما: إما المفاوضات، وإما المقاومة المسلحة والعمليات التفجيرية و»الصاروخية». ومع هذه النتيجة المؤسفة يجدر بنا التذكير بأن الفلسطينيين (قبل الفصائل) عرفوا في تاريخهم النضالي أشكالاً متنوعة من الانتفاضات الشعبية وأعمال العصيان المدني في العقدين الثاني والثالث والرابع من القرن الماضي، ونظموا أطول إضراب في التاريخ (استمر لستة أشهر في 1936)، وانتهجوا أوسع أشكال العصيان المدني ضد الاحتلال في السبعينات، وصولا للانتفاضة الأولى (19871993)، التي سميت بانتفاضة «أطفال الحجارة». في المحصلة فإن الواقع الراهن لا يفيد بإمكان المطالبة باستعادة خيار المقاومة المسلحة، أو إطلاق انتفاضة جديدة، بالنظر لعدم قابلية الحامل المجتمعي لذلك، بحكم واقع الاستنزاف والإرهاق الشديدين اللذين تعرض لهما الشعب الفلسطيني، والتبديد غير المدروس لقواه، في المواجهات غير المحسوبة التي جرت في المرحلة الماضية، ونسبة للنتائج البائسة للتجربة المهيضة التي خاضها (منذ 2000)، وأيضاً بحكم التغير الحاصل في المحيطين العربي والدولي. أما بالنسبة للمطالبات بإعادة الاعتبار للبعد القومي للقضية الفلسطينية، وعلى أهمية الاحتضان العربي لقضية فلسطين، فهذه مسألة ليست لها علاقة بالرغبات وإنما تتعلق باتجاهات النظام العربي السائد، في واقع عربي يفتقد لمجتمعات مدنية، وتهيمن عليه في الأغلب أنظمة شمولية. ومعلوم أن الأنظمة السائدة مختلفة في ما بينها في السياسة والاقتصاد والأمن، مثلما في الثقافة ومناهج التعليم وحتى في المباريات الرياضية والمسابقات الفنية، وبديهي أن هذا الواقع لا يمكن أن ينتج حاملاً «قومياً» مناسباً وايجابياً للقضية الفلسطينية. على الصعيد الداخلي لا تبدو المطالبات أحسن حالاً. ذلك أن الحديث عن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير بات يجتر نفسه، فليس بين القوى المعنية من يعمل أو من له مصلحة في العمل من اجل ذلك، لا «فتح» ولا «حماس»، المتمسكتان بمكانتهما في السلطة (في الضفة والقطاع). ومشكلة الوضع الفلسطيني ليست فقط في اعتماد الديموقراطية، وفق نمط الانتخابات، وإنما في ضعف الحوامل السياسية والثقافية والمجتمعية للديموقراطية، وللعمل السياسي، ما يفسر تدهور العملية الانتخابية (لعام 2006)، وحال الاختلاف والاقتتال والانقسام. وليس القصد مما تقدم إشاعة نوع من التشاؤم إزاء الحال التي تدهورت إليها أوضاع الفلسطينيين، فوق كل معاناتهم وتضحياتهم وكفاحهم، وإنما لفت الانتباه إلى أن الشعارات والمطالبات لا تفيد شيئاً، إن لم تكن مدروسة وملائمة للواقع حقاً (ولو بالمعنى النسبي)، وإن لم يكن لها حوامل وبنى سياسية ومجتمعية، وإن لم ترتبط بالإمكانات والمعطيات، وهذا ما ينبغي الاشتغال عليه أكثر. * كاتب فلسطيني