حسناً، وصلت حركة «حماس» إلى حيث انتهت حركة «فتح»، فالاثنتان شكلتا عمود المقاومة المسلحة، كل في زمنه الخاص، لتتحوّلا في زمن آخر، نحو المقاومة الشعبية. والاثنتان انطلقتا من مبدأ تحرير فلسطين، من النهر إلى البحر، لتتحوّلا بعده، كل على حدة، نحو هدف إقامة دولة فلسطينية (في الضفة وغزة) مع حق العودة؛ علماً أن مضمون هذا الحق يفيد بالعيش في نطاق السيادة الإسرائيلية أي من دون عملية التحرير. وبينما كانت «فتح» تحمل عبء عملية أوسلو، وإنشاء كيان السلطة (1994)، فإن «حماس» لحقت بها، بعد طول معارضة، من مدخل الانتخابات التشريعية (2006) بحيث باتت جزءاً من تلك العملية، لا سيما مع تحولها إلى سلطة في غزة. الجدال هنا لا يتعلق بصوابية هذا التحول أو ذاك، من عدمه، وإنما بحيثياته: ذلك إن التحول عند الحركتين لم ينجم عن دراسة معمّقة ونقدية للخيارات السابقة، ولتداعياتها، بدليل الخلافات والتباينات التي شهدتها وتشهدها كل واحدة منهما. والحال إن هذا التحول حصل نتيجة تفاعلات أخرى، تتعلق بضغط الظروف المحيطة، وبالكلفة التي يمكن أن تنجم عن المعاندة و «الممانعة»، فضلاً عن الإغراء المتعلّق بحيازة المكانة والسلطة. وبالخصوص فهذه التحولات حصلت بعدما دفع الفلسطينيون أثماناً باهظة جداً للتجربة الوطنية الفلسطينية المسلحة، في الخارج، كما في الداخل. هكذا، فإن قيادة «حماس» وسلطتها في غزة، باتت اليوم تقول وتفعل ما كانت تقوله وتفعله قيادة «فتح»، وسلطتها في الضفة وغزة، قبل أعوام قليلة، وإن كان ذلك يحصل مع «حماس» اليوم مصحوباً بتغطية من «فتوى»! فمنذ قيام السلطة، مثلاً، كثيراً ما حاولت القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة والسلطة و «فتح») كبح حركة «حماس» عن القيام بالعمليات التفجيرية في المدن الإسرائيلية، بدعوى أن ثمة طرقاً أخرى للنضال، وبغرض إتاحة المجال للفلسطينيين لبناء كيانهم، الناشئ في الضفة والقطاع، لكن حركة «حماس» كانت ترد باعتبارها أن «فتح» تخلّت عن المقاومة المسلحة، وفرّطت بالقضية وبالوطن. لكن صدمة نجمت عن فشل مفاوضات كامب ديفيد (2000)، والتي أكدت فيها القيادة الفلسطينية رفضها للإملاءات والتلاعبات الإسرائيلية بعملية التسوية، وبيّنت عدم صوابية هذا الموقف، لا سيما مع اندلاع الانتفاضة الثانية التي شملت تحول «فتح» نحو المقاومة المسلحة، عبر «كتائب الأقصى»، الأمر الذي لم تنسه إسرائيل لياسر عرفات الذي فرضت عليه حصاراً مشدداً في مقره في المقاطعة لثلاثة أعوام، حتى رحيله. المهم أن هذا التحول من قبل «فتح»، بصرف النظر عن طريقة إدارته، جاء على خلاف كل طروحات «حماس» عن هذه الحركة، في حينه، لا سيما في ما يتعلق بوصمها بالعمالة والتفريط، إذ إن الأمر أكثر تعقيداً بكثير، ولا يمكن تبسيطه بمجرد كلمات. مرة أخرى، عندما قامت الانتفاضة الثانية، التي انخرطت فيها «حماس» وفق نمط العمليات التفجيرية، والقصف الصاروخي، كانت هذه العمليات (التي قامت بمثيلتها كتائب الأقصى أيضاً) محط انتقاد من أوساط في «فتح» بدعوى أنها تعرّض الفلسطينيين للبطش الإسرائيلي، وتضرّ بصدقية قضية الفلسطينيين وعدالتها، وتوحّد الإسرائيليين حول حكومتهم. وبالطبع فإن «حماس» لم تصغ وقتها إلى ذلك، وعادت إلى معزوفتها في شأن كيل الاتهامات للقيادة الفلسطينية، الأمر الذي أوصل إلى الاقتتال والانقسام. ليس معنى ذلك أن هذه القيادة لا تستحق النقد، فليس ثمة أحد فوق طائلة النقد، لكن هذه القيادة يمكن أن تُنتقد على أشياء كثيرة ضمنها المزاجية والتجريبية والفردية في إدارة صراعها مع إسرائيل، وشعبوية خطاباتها، ومسؤوليتها عن ترهل البنى الفلسطينية، وتغييب الأطر الشرعية وغير ذلك الكثير. المدهش أن «حماس» وبعدما باتت سلطة في غزة (2007)، وبعد حربين إسرائيليتين، باتت تتحدث بالمفردات ذاتها التي كانت «فتح» تتحدث بها، وكانت مدعاة لنقدها لها وتشكيكها بها. فها هي «حماس» اليوم مع الهدنة والتهدئة، ووقف الأعمال العدائية (وهذه كناية عن وقف المقاومة)، مع وجود قوى أمنية منها لحراسة هذا الواقع على الحدود بين غزة وإسرائيل، مع كل ما يمكن أن يعنيه ذلك من فصل واقع غزة عن واقع الضفة في العملية الوطنية الفلسطينية. وها هي «حماس»، وعلى لسان قائدها خالد مشعل، تؤكد أنها «لا تستهدف المدنيين» (الإسرائيليين) وتوافق على «سلوك سبل سلمية من دون سفك دماء أو استخدام أسلحة إذا حصلنا على مطالبنا المتمثلة بإنهاء الاحتلال وإقامة دولة وتلبية سائر الأهداف الوطنية»، مع اعتبار «مسار السلام وإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967 مع حق العودة... محل توافق فلسطيني... الفلسطينيون اليوم، وفي الماضي، وافقوا، ومعهم «حماس»، على برنامج ينصُّ على قبول دولة ضمن حدود 1967». المدهش، هنا، أن «الحمساويين» باتوا فجأة من أشد المدافعين عن كل تلك التعابير، على رغم أنه بالأمس القريب كان تعبير «المدنيين» الإسرائيليين، وتعابير مثل المقاومة الشعبية، أو الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، من التعابير المحرّمة التي كانت توجب رمي الشبهة على القائل بها. وهذا ما يذكّر بقول الشاعر: «وما أنا إلا من غزيّة إن غوت/ غويت وإن ترشد غزية أرشد»! وهو ما يفتح على واقع مؤلم، ومحزن، تعاني منه مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها. فهذه المسائل بالضبط هي التي كانت تقف وراء خلافات الفلسطينيين واقتتالهم وانقسامهم، واستنزاف قواهم في معارك مجانية. وأكرر: ليس القصد هنا، تأكيد صوابية هذا التحول أو نضجه أو غير ذلك، وإنما الإشارة إلى الحالة المَرَضية التي تعاني منها فصائل العمل الفلسطيني، نتيجة سيادة العقليات المغلقة، والعصبيات الفصائلية، على حساب العقليات الوطنية، والمسؤولة، والنقدية. وهي حالة ناجمة، أيضاً، عن غياب الطابع المؤسسي والديموقراطي والتمثيلي في النظام السياسي الفلسطيني السائد (المنظمة والسلطة والفصائل). لذا، فلنأمل بعد كل ما جرى، وبعد كل هذه التجربة، والأثمان الباهظة، أن يتخلى الفلسطينيون عن روح العصبية الفصائلية، والعمى الأيديولوجي، وعقلية احتكار الحقيقة، وضمنه ثنائية إما مع «فتح» وإما مع «حماس». فالقضية الفلسطينية أعقد وأوسع وأشمل بكثير من هذه الثنائية. وعلى الأقل، فإن تجربة عمرها يناهز نصف قرن تستحق نضجاً كهذا.