قبل سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، كان متوقّعاً أن يصل النمو الاقتصادي في تونس لعام 2011 إلى 5.4 في المئة، وألا يتجاوز العجز في الموازنة 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وأن تظل نسبة الدين العام دون 40 في المئة. ويتعيّن الآن على الحكومة المنتخبة أن تتعامل مع توقّعات اقتصادية مختلفة بسبب الانعكاسات السلبية المرتبطة بالثورة، والآثار الجانبية للثورة الليبية، وتداعيات أزمة اليورو في الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر الشريك الاقتصادي الرئيس لتونس. منذ اندلاع ثورة الياسمين تراجعت السياحة، التي تعدّ أكبر مزوّد للنقد الأجنبي في تونس، بنسبة تزيد على 50 في المئة، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 20 في المئة، وغادرت أكثر من 80 شركة أجنبية البلاد. وتفاقم الوضع في سوق العمل، لتسريح العمال وتدفّق العمال التونسيين الفارّين من ليبيا بعد اندلاع الثورة هناك. وارتفع عدد العاطلين من العمل إلى 700 ألف مقارنةً بأقل من 500 ألف نهاية عام 2010. وبلغ معدل البطالة 17 في المئة، مقارنة ب 14 في المئة قبل الثورة. وازداد عجز الموازنة العامة وعجز الحساب الجاري. واضطرّت البلاد إلى مواجهة عقبة مزدوجة تمثّلت في نقص السيولة وارتفاع كلفة التمويل الخارجي نظراً إلى خفض درجة التصنيف السيادي. ومع الكلفة الاقتصادية للثورة التي تقدّر بنحو خمسة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، يُتوقع ألا يتجاوز النمو لعام 2011، وفق وزارة التخطيط والتعاون الدولي، 0.2 في المئة. وفي سياق جهودها لمعالجة هذا الوضع، اتّخذت الحكومة الموقتة مجموعتين من القرارات الأساسية. أولاً، في نيسان (أبريل)، أعلنت الحكومة «البرنامج الاقتصادي والاجتماعي القصير المدى»، الذي يتألف من 17 إجراءً، ويهدف إلى إيجاد تأثير اقتصادي فوري من دون الإضرار بالآفاق المستقبلية للاقتصاد. ويشمل البرنامج خمس أولويات: الأمن، وإيجاد فرص عمل، ودعم النشاط الاقتصادي، وتيسير الحصول على تمويل، وتعزيز التنمية الإقليمية، وتقديم مساعدات اجتماعية مستهدفة. لكن باستثناء إيجاد فرص عمل ودعم النشاط الاقتصادي من خلال حوافز ضريبية ومالية، بدت معظم الإجراءات الأخرى غامضة ومفتقرة إلى أي جدول زمني واضح لتنفيذها. ثانياً، عدّلت الحكومة الموقتة الموازنة العامة للدولة لعام 2011، وصدِّق مشروع قانون الموازنة التكميلية في حزيران (يونيو) 2011 بهدف إعادة تكييف موارد الدولة، لتأخذ في الاعتبار الآثار المالية المترتّبة على التدابير الاستثنائية التي اتُّخِذَت بعد ثورة الياسمين. وازداد الإنفاق العام المتوقّع بنسبة 11 في المئة. وواجهت الحكومات الموقتة ثلاثة قيود. أولاً، كان لديها أفق زمني قصير ومتقلب وملتبس، ما يجعل تقويم أدائها صعباً. ثانياً، كانت لدى هذه الحكومات موارد محدودة لاستيعاب الكلفة الاقتصادية للثورة ومواجهة الآثار السلبية للأزمة الليبية، في حين كانت تواجه توقعات عالية من شرائح واسعة من المجتمع. ثالثاً، وجب عليها التعامل مع مسألة شرعيتها والغموض في شأن الحدود الدقيقة لمهمتها. ومن وجهة نظر الخطاب الحكومي، تميل هذه المهمة إلى تصريف الأعمال وإدارة المسائل اليومية، لتمهيد الطريق أمام إجراء انتخابات حرّة ونزيهة، وتجنّب تقديم أي التزامات، خصوصاً إذا ترتّبت عليها آثار تتجاوز الفترة الانتقالية. وعموماً، كانت فترة ما بعد الثورة في تونس عصيبة جداً، في ظل تراجع حادّ في النشاط الاقتصادي المحلي، وجوار إقليمي مضطرب، وارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية في الأسواق الدولية. لكن على رغم هذه الصعوبات، نجحت الحكومة الموقتة التي قادها الباجي قايد السبسي في منع الاقتصاد من الانهيار، والحفاظ على مستوى جيد من احتياطات النقد الأجنبي، والسيطرة على التضخم. وفاز «حزب النهضة»، وهو حزب إسلامي معتدل، في الانتخابات التي أجريت في تونس في تشرين الأول (أكتوبر). ويرجَّح أن يسيطر «حزب النهضة» على الحكومة الائتلافية الجديدة التي شكِّلت بعد مرور ما يقارب شهرين على الانتخابات. ووعد قادة الحزب بانتهاج سياسات اقتصادية ليبيرالية وصديقة للأعمال التجارية. ويُتوقع أن يواجه الاقتصاد وقتاً عصيباً في ظل الركود الاقتصادي في أوروبا، المسؤولة عن 80 في المئة من تجارة تونس. وعلى رغم نمو الاقتصاد التونسي بنسبة 1.5 في المئة في الربع الثالث، سيكون النمو الإجمالي عام 2011 قريباً من الصفر. ويرجح مشروع موازنة تونس أن يتعافى الاقتصاد وينمو بنسبة 4.5 في المئة عام 2012. لا بدّ للحكومة الجديدة من بلورة إستراتيجية شاملة ومتّسقة، واعتماد خطاب ذي صدقية، ووضع أهداف محدّدة وجدول زمني لبلوغها. ولمواجهة التحديات الكبرى في البلاد، يجب أن تولي هذه الإستراتيجية اهتماماً خاصاً لأربعة ركائز أساسية: أولاً، إيجاد فرص عمل لائق من طريق حفز قطاع خاص قوي وتنافسي. ثانياً، يتعيّن على صنّاع القرار توجيه الموارد نحو قطاعات مختارة تتميّز بقيمة مضافة مرتفعة ومعرفة مكثفة. ثالثاً، على المسؤولين عن المالية العامة إزالة التشوّهات وتحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال التقاسم العادل للعبء الضريبي والإنفاق الاجتماعي الأكثر فاعلية. رابعاً، صنّاع القرار في حاجة إلى بلورة إستراتيجية شاملة للتنمية المناطقية تؤمّن لمحافظات البلاد والمجالس المحلية أُطُراً لسياسة عمليّة، وموارد بشرية ومالية كافية للتعامل مع المسؤوليات المخوّلة لهم من قبل الدولة. * باحث اقتصادي في «مركز كارنيغي للشرق الأوسط» - بيروت