كانت رياح الغزو الأميركي تنذر بالهبوب. قلت اسأل السياسيين العراقيين عن مخاطر غرق العراق في الفوضى بفعل الفراغ الذي قد يخلّفه اقتلاع نظام صدام حسين. وسألت تحديداً عن احتمال اضطراب العلاقة بين المكونين السنّي والشيعي. أستقبل السؤال بقدر غير قليل من الاستغراب والانزعاج. أستطيع إيجاز الأجوبة على الشكل الآتي: «تخطئ إذا قرأت المشهد العراقي بعيون لبنانية. نحن لدينا مشكلة وحيدة اسمها صدام حسين. لا جذور عندنا للمشاعر الطائفية والمذهبية. تعثر في العائلات الكبرى على جناح شيعي وآخر سنّي. التزاوج طبيعي والتداخل عميق في بغداد وخارجها. لا يخطر ببال العراقي ان يسأل إذا كان محدّثه شيعياً أم سنّياً. ليتك تبقينا بعيدين من الأمراض اللبنانية. المشاعر القومية عميقة لدى العراقيين وهي تتقدم على المشاعر الاخرى. العسكريون الشيعة قاتلوا ضد ايران على امتداد سنوات الحرب». أريد للأمانة ان أسجّل موقفاً مختلفاً. قبل شهور من الغزو الاميركي ذهبت الى مسعود بارزاني. حكى لي عن هول الجرائم التي ارتكبها نظام صدام بحق الأكراد. روى مجريات «حملة الأنفال» وقصف حلبجة بالأسلحة الكيماوية وكيف ارسل السيد القائد آلاف البارزانيين «الى الجحيم» وبينهم ثلاثة من أشقاء مسعود. قال بارزاني إنه يشعر بأن اميركا جادة للمرة الاولى في إسقاط النظام. لكنني لاحظت شيئاً من القلق في عينيه. طرحت عليه السؤال المزعج، فردّ بوضوح انه يخشى حصول فراغ يُغرق العراق في فوضى دموية طويلة تخالطها تصفية حسابات بين المكونات، وأعرب عن امله في ان تقوم سريعاً سلطة عادلة وقادرة ومقبولة لتجنيب العراق سوء المصير. في بداية الاحتجاجات السورية يخطر ببالك ان تطرح السؤال، فتأتيك الإجابة سريعة وحاسمة: «هذا غير وارد اطلاقاً. صحيح اننا عايشنا الانهيار اللبناني على مدى عقود وانخرطنا فيه احياناً، لكن اللبننة مستحيلة في سورية. أنظر الى تاريخ سورية الحديث، تكتشف ان محرك الاحداث فيها كان الهم القومي اولاً. رسخت العقود الماضية قيماً لا علاقة لها بالتشرذم الطائفي والمذهبي. هذه الثقافة مغروزة في ضمير السوريين. لم نسمح لثقافة الاحتراب والانقسام بأن تشق طريقها. الرياح التي انطلقت من العراق في السنوات الاخيرة لم تجد لها صدى عندنا. الأمراض اللبنانية لا تتسرب عبر الحدود. نهج سورية المقاوم والممانع يمنع الانزلاق الى التصادم المذهبي والحرب الاهلية. الأخطار على سورية مصدرها الخارج لا الداخل». في التسعينات رحت أطرح السؤال على السياسيين اللبنانيين. وكانت الاجوبة على الشكل الآتي: «قدر اللبنانيين ان يعيشوا معاً. بينهم شراكة مصير ومصالح. الفصول السوداء عابرة. لم تكن حرباً اهلية بالمعنى الدقيق. كانت حروب الآخرين على ارضنا وكنا فيها مجرد أدوات. غداً حين ينسحب الاسرائيليون سيسترد البلد عافيته. لقد تعلم اللبنانيون الدرس». وكنت ارغب في التصديق او أتظاهر تماماً كما كنت افعل حين اطرح السؤال في القاهرة او المنامة. أفكر اليوم في الازمة العميقة التي تضرب العراق. إنها تتخطى بالتأكيد شخص طارق الهاشمي والاتهامات الموجهة اليه. كانت المسؤولية الوطنية تقضي بترميم المصالحة الوطنية قبل مغادرة الاحتلال. ما اقسى ان تسوء حالة بلد على رغم انسحاب الاحتلال. أفكر ايضاً في لبنان. حرر معظم ارضه ثم راح يتلوى على وقع الاغتيالات والمغامرات. ازمة المكونات اللبنانية عميقة وخطيرة. افكر في الأنباء الواردة من حمص. في أخبار الخطف والنسف والقصف والإعدام والقتل بلا رحمة. رائحة حرب اهلية مريرة وباهظة. تحصد بلداننا اليوم ثمن سياسات المجازفة والقسر والهروب والإنكار وتبديل المعارك والعناوين ورفض الاستماع الى الوقائع والحقائق. نتجاهل جروحنا فتتضاعف الالتهابات. نتظاهر بالصحة وينهشنا السرطان فنعالجه بالتجاهل والإنكار.