«لقد طفح الكيل». كان هذا تقريباً لسان حال الكنيسة الكاثوليكية الرسمية في ذلك الزمن. فهي، لئن كانت تسكت عن تعرضها لانشقاقات من هنا، وهرطقات من هناك، فإن هذا كان ضريبة النجاح والاستمرار التي لا بد من دفعها، طالما ان كل ذلك يظل محصوراً في الأقلية من الناس، ويظل لا يشكّل خطراً حقيقياً. ولكن حين يلوح مثل ذلك الخطر في شكل جدّي، وحين تنتشر الفلسفة العقلانية انتشار النار في الهشيم، وحين يحدث ذلك في زمن كان الإنسان بدأ يعي إنسانيته ومكانه من هذا العالم، وأخذت الفلسفة تبحث عن دروبها المستقلة، فإن الموقف يصبح خطيراً والكنيسة تصبح في حاجة الى من يدافع عنها بأقوى وأوضح وأكثر إقناعاً مما اعتاد أن يفعل غلاة المدافعين. وفي ذلك الحين كانت الكنيسة حافلة بالمدافعين ورجال الدين، وبعضهم كان متميزاً، ولكن منذ القديس أوغسطين كان ثمة نقص حقيقي: افتقار الى دماغ كبير، ورجل فكر وعقل يجابه «الأعداء» مجابهة الند للند، لا مجابهة المرتكن الى يقينيات مفروضة قسراً من طريق النقل. كانت الكنيسة في حاجة الى من يتحرك منطلقاً من العقل. أما الأعداء فكانوا، في ذلك الحين، تلامذة الفيلسوف العربي الأندلسي ابن رشد، وحوارييه، من أولئك الذين قرأوا، في استفاضة، كتبه الموضوعة (لا سيما «تهافت التهافت»)، خصوصاً كتبه التي يشرح فيها أرسطو. كان أرسطو الدماغ القديم الجبار الذي تتحطم عنده كل الأدمغة. ولئن كان ابن رشد، والرشديون اللاتينيون قد استخدموا الفيلسوف الإغريقي الكبير في «معركتهم ضد الإيمان» (بحسب الكنيسة) وفي «معركتهم من أجل عقلنة الإيمان» (بحسب قولهم هم)، فإن المطلوب الآن استعادة أرسطو، وفصله عن الرشدية لعزل هذه الأخيرة والتخلص من خطرها. وفي تلك اللحظة الانعطافية حيث راحت الرشدية تنمو وتتطور في جامعات أوروبا، لا سيما باريس ويادوفا، تمكنت الكنيسة من أن تحصل على ما تريد. وكان ذلك في شخص توما الاكويني، المفكر المبدع الذي أنفق حياته كلها مدافعاً عن عقلانية الإيمان، شادّاً أرسطو الى أحضان الكنيسة، محاولاً أن يرمي «ابن رشد وبقية الكفار» في مزابل التاريخ. صحيح انه لم يتمكن من هذا، لكنه انتج للكنيسة بعض أهم وأعظم الكتابات التي ساهمت في تبديل مسارها، وخصوصاً مسار علاقتها مع العقل. لاحقاً طوّب توما قديساً، واعتبر ثاني أعظم رجل في تاريخ الكنيسة بعد القديس أوغسطين، وقيل دائماً انه لئن كان هذا الأخير قد «جرّ» أفلاطون الى الكنيسة، فإن توما «جرّ» من يعتبر، عقلانياً وفي مجال المنطق، أعظم من أفلاطون: جرّ أرسطو. واللافت ان هذا جاء تحديداً في ذلك الكتاب الذي وضعه توما ضد ابن رشد «الخلاصة ضد الكفار» كتكملة لكتابه الكبير «الخلاصة اللاهوتية». على رغم صعوبة الموضوع، وعلى رغم عدد الصفحات المرتفع (في «الخلاصة اللاهوتية» كما في «الخلاصة ضد الكفار»)، فإن السياق يبدو بسيطاً وواضحاً وعميقاً في وقت واحد. فلئن كان الفكر الرشدي قد حرص، في نسخته الأوروبية، وعلى رغم كتاب «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال» (لإبن رشد)، حرص على ان يبرهن ان للعقل ميدانه وللإيمان ميدانه، وليس من الضروري ان يلتقي الميدانان ويتطابقا، فإن توما الاكويني، جاء في «الخلاصة ضد الكفار» ليقول: بلى... يتطابقان ويجب ان يتطابقا. لأن البرهنة على وجود الخالق، والتي هي العنصر الأول في الإيمان، لا يمكن الوصول اليها إلا من طريق العقل. بالنسبة الى توما الأكويني: العقل وحده هو الذي ييسّر للإنسان القلق والمتسائل فرصة الوصول الى اليقين. من هنا لا يمكن القول، بالاستناد الى النقل، إن الإيمان إشراق ويقين ينبع من النفس والقلب والوجدان فقط وكفى المؤمنين شرّ القتال، بل يجب ان نقول: إن الإيمان ينبع من العقل. في هذا الإطار يقول الباحث اللبناني ميخائيل ضومط (الذي نقل عنه كثيرون من المفكرين العرب المعاصرين الذين كتبوا عن توما الاكويني، وغالباً من دون ان يذكروه) ان توما لم يجار لاهوتيي زمانه في استسلامهم الى نظريات الأفلاطونية الحديثة (...) بل انه في نقده إياها وتبيانه بطلانها، قد استند الى العقل متكّئاً على أرسطو. ولكن أرسطو، الذي يرى فيه المجددون أمام العقل، والذي يقدّره توما بالغ التقدير، ما زال في نظر المحافظين، والسلطة أكثر ما تكون في جانب المحافظين، الخصم الأكبر للعقيدة الدينية، لا سيما أنه دخل البيئة النصرانية على يد أناس من الخوارج. فما يكون موقف توما منه، وكيف يبرر هذا الموقف أمام السلطة؟ والحال ان توما وضع القسم الأكبر من مؤلفاته للإجابة عن هذا السؤال، انطلاقاً من أن «ليس إلا الإيمان يروي غليل العقل الى الحق وينيره حتى تكتمل قواه ويشتد بأسه». والفلسفة، في نظر توما ليست، ولن تكون، بحثاً في ما قاله الناس، بل بحثاً عن الحق. ومن هنا، فإن «البحث في أمر علة العلل، هدف الفلسفة الأول والأخيرة». وهكذا، انطلاقاً من هذه القناعة يبحث توما في «الخلاصة ضد الكفار» عن علة العلل، واصلاً الى خمسة براهين تدلل، قطعاً، على وجود الله: البرهان الأول، من طريق الحركة، والثاني، من طريق العلة الفاعلة، والثالث من طريق الإمكان والوجوب، والرابع من طريق درجات الكمال، والخامس والأخير من طريق تدبير الكون. غير ان البرهان على «علة العلل» لم يكن الأمر الوحيد الذي تطرّق إليه توما الأكويني وعالجه، وربما للمرة الأولى في تاريخ الفكر الكنسي، من طريق العقل. فهو، - وبالطريقة نفسها - بحث في مسائل «النفس» و «المعرفة» و «حرية الإنسان» و «الشرائع». وفي هذا كله، وكما يقول ميخائيل ضومط، كان من فضل توما أنه «صالح العقل والإيمان»، إذ «قبل توما كان المؤمنون يخشون على إيمانهم من هجمات العقل، وبعد توما أصبح العقل السليم حليف الايمان» و «أصبح المؤمنون لا يرضون بإيمان ينافي العقل». ولد توما في قصر يدعى «روكاسيكا» قرب مدينة أكوينو في إيطاليا (ومن هنا اسمه الاكويني) في عام 1225. وهو ابن لأسرة ثرية وكان ابوه سيد المدينة. باكراً دخل توما الصغير الدير البنديكتي في «مونتي كاسينو». ولاحقاً، بعد أحداث سياسية عاصفة، توجّه الى جامعة نابولي حيث درس الفلسفة، لا سيما الفلسفة اليونانية والعربية. وفي عام 1244، انضم الى الرهبان الدومينيكان، لكن أهله عارضوه وقمعوه فصبر عليهم حتى ارتحل الى باريس، حيث درس وتعرف الى المفكر... البرتوس مانيوس (البيرت الكبير)، وكانت تلك بداية علاقته التناحرية بالفكر الرشدي. بعد ذلك درس في باريس ثم عاد الى روما حيث علّم في البلاط البابوي. وبدأ يخطّ مؤلفاته الفكرية التي أثارت سجالات، خصوصاً أن كثيرين لم يفهموا في البداية علاقته بفكر أرسطو. ولاحقاً، خلال سجاله مع الرشدية، تمكن توما من ان يدفع الكنيسة الى تحريمها وتحريم تدريسها. وفي عام 1273 ترك توما التعليم نهائياً ولم يلبث أن توفي. وفي عام 1323 أعلن البابا يوحنا الثاني والعشرون تطويب توما الاكويني قديساً. [email protected]