منذ عشرين عاماً عرفتُ عَمّان. كان مهرجان جرش مناسبةَ لقاءٍ أول تعاقبَتْ بعده الزياراتُ والأمسيات واللقاءات مع عاصمة مضيافة على غيرعادة العواصم، ومدينةٍ لا تزال مُحتفظةً بشيء من أثر الريف وسحره، فضلاً عن امتدادها الضارب في الجغرافيا والتاريخ معاً، المفتوح على بيداء لا حدّ لها وأمداء لامتناهية. عقدان من الزمان حَفِلا بكمٍّ هائل من التحوّلات والتبدلات في المنطقة والعالم، فيما المدينة مستلقية على هضابها تَشي بالهدوء والسكينة على نقيض ما تُضمر أو ما يعتمل في نفسها من هواجس وأسئلة، هي الواقعة على فالق الزلازل الجيوسياسية في اقليم تكثر فيه العواصف والأعاصير «غير الطبيعية». هذه الأيام، شأنها شأن كل عواصم الجوار السوري، تعيش عمّان ترقباً مَشوباً بالقلق مما يجري «هناك» وتداعياته «هنا»، لا سيما أن الترابط والاجتماعي والتواصل الاقتصادي بين البلدين، الأردن وسورية، يجعلان لهما أكثر من حبل سرّة واحد. الى الغرب ثمة حبل سرّة آخر يربطها بفلسطين المحتلة، التي لكل نَفَس فيها ارتدادٌ هنا أيضاً ولكل صوت صدى. بعيداً من واقع الحال «السياسي» بمعناه المُتداوَل (اذ لا يمكن مقاربةُ أيِّ واقع في معزل عن فعل السياسة في حياة الناس)، ما الذي تغير في المدينة العريقة على مدى عقدين اختَتما ألفيةً وافتتحا أخرى؟ طبعاً، كما أهل مكة، كذلك أهل «ربّة عمّون» أدرى بشعابها ووقائع عيشها وطبائع ناسها وما تخلّفه فيها صروفُ الأيام. لكن للزائر أن يُلاحظ لا أن يُصدر الأحكام، وما لاحظته في زيارات متكررة مَسبوقة بالشوق الى أصدقاء وأمكنة مصحوبة بالأنس والمتعة، أن المدينة باتت أكثر حياة وصخباً وحيوية. ليس الصخب وقفاً على التظاهرات والاعتصامات، التي باتت أمراً مألوفاً في اليوميات العَمّانية، ولا على كثرة تغيير الحكومات وتعاقب الوزراء على الحقائب والمسؤوليات تعاقُبَ الليل والنهار، حتى بات الأردنيون يمازحون بعضهم بعضاً بعبارة «معالي الشعب الأردني»، في اشارة الى ندرة مَن لم يتبوأ منصباً وزارياً. الصخب والحيوية وتبدل وقائع العيش الأردني باتت سمة حاضرة في الحياة الاجتماعية نفسها. ليست الأريحية والغيرية وحُسن الاستقبال والضيافة أمراً مستجدّاً أو طارئاً هنا، ولا سواها من سمات بداوة أصيلة جميلة، لكن ليل عَمّان بات أطول وضوضاء ساهريه أمست مسموعةً أكثر، فيما المقاهي والمطاعم تزداد انتشاراً في شوارع المدينة وفنادقها و»دُوّارَتها» المعروفة. لكلّ مقاهيه وأمكنته، من «جفرا» و «ركوة عرب» الى «ستارباكس» و «ميرابل» و «عبدون كافيه» وسواها. والمقهى ليس مكاناً لتزجية الوقت فحسب، بل شاهد وبرهان على ما يستجد ويطرأ، والروادُ على مقاهيهم «يقعون». ليست كثرة الأرائك المتاحة لارتشاف قهوة أو تبادل نَخْب وحدها العلامة، بل ما يدور فيها، طبيعة الناس، سماتهم وقسماتهم، مظهرهم ومَخبَرهم، فحوى أحاديثهم ونقاشاتهم، ارتفاع سقف التعبير أكثر فأكثر مع اندلاع الثورات العربية، الإقبال المتزايد على حياة تظلّ «جميلة يا صاحبي» رغم كل ما يعتريها من مصاعب وشوائب، فضلاً عن تنامي الأنشطة ذات الطابع الأدبي/ الفني، اذ نادراً ما يَمرّ مساء لا يحتضن حَدَثاً ما، وهذا الأهم، فأكثر ما يعني مَن أدركته حرفةُ الأدب وأصابه مَسُّ الشعر مثلي، أن عمّان مدينةٌ تُحسن وفادة الشعراء، تستقبلهم بالترحاب، تصغي اليهم بانتباه، تنتشي بهم وينتشون بها، تحتضنهم، تصفق لهم، ترفعهم على أَكُفِّ المودة الى أعلى فيشعر الزائر كأنه مقيم، والمسافر كأنه لا يزال مُحلّقاً فوق السَّحاب قبل أن تحطَّ به الطائرة في مطار الملكة علياء. ... تلك بعض أسباب حُبّ عمّان.