سيدي عام 2011 تحية طيبة وبعد، أرجو أن تكون في الطريق لأن تلملم عفشك وترحل بعد أيام قليلة، ونحن في أتم الصحة والعافية، فقد كنت ويا للأسف ضيفاً ثقيلاً على مشاعرنا ووجداننا، وأظن الكثير يشاركوني هذا الشعور. أرجوك «ارحل غير مأسوف عليك»، ليس لأننا مع الديكتاتوريات التي أطحت بها، ولا كنا متعاطفين مع المستبدين وسارقي أحلام البسطاء، ولكن لأننا وبصدق لم نعد نحتمل أن نرى المزيد من الألم والدماء والفواجع تنهمر علينا من كل أيامك ودقائقك. كنت عاماً عجيباً بالفعل، ولا أظن في التاريخ الإنساني الحديث مر على البشرية بمثلما مررت، كنت ضيفاً ثقيلاً متطلباً، ونادراً ما كنت تترك أحداً على حياده، فإما أن نكون معك أو نكون ضدك، وهو ويا للأسف أمر صعب لا يستطيع أي بشر أن يلتزم به حتى ولو ملك المشاعر كلها، فما نحبه هنا قد نكرهه هناك، وما نقبله هناك قد نرفضه هنا. إذاً أيها العام العجيب: لقد أتيت كامرأة صارمة متمردة لا مجال للتفاهم معها، ولا مجال للحياد في العلاقة معها، فإما أن نحبك كل الحب أو نكرهك كل الكره. ولعلي هنا أذكرك ببعض مشاهدك العجيبة، بدأت بشيء من الدماء على أرصفة الإسكندرية العتيقة، فشاهدنا على الهواء المباشر أصوات المسيحيين وهم يتألمون ويلملمون دماءهم من على الأسفلت، بدأت بهم ولم تنتهِ من التهام المزيد حتى اليوم. لم تكن تلك سوى البداية لأنهر من الدماء والألم، والأفراح بلا شك، لكن مقاييس الفرح والألم التي قد لا تعرفها، تتغير بتغير الأمكنة، فمن يفرح في جانب يقابله من يبكي في الجانب الآخر. عام حصاد وحساب عسير، وكأن ما زرع في 100 عام كان يجب قطفه في عام، لكن أغرب ما فعلته أيها العام، كان تحطيم كل المسلمات التي عرفها الإنسان، فقد عاش الإنسان بطبيعته يخشى مواجهة الطغيان، أو الخروج عليه، وحتى إذا خرج عليه كانت «النخب» هي من تتولى ذلك الخروج «نيابة وشجاعة»، على أن تقضي أمرها سراً في يوم موعود وساعة محددة، تلفها ستائر السرية والتكتم حتى تنجح، وهو ما حصل في كل المشاريع الانقلابية في العالم العربي وخارجه. لكن في هذا العام: كان بسطاء العرب ومهمشيهم يحددون للأنظمة موعد التحرك ومكانه وساعته، وربما حتى الأشخاص المقبلين إليه، هكذا علناً وفي وضح النهار يتم إعلان رفض الحكم والانقلاب عليه، وكأن العلانية أصبحت هي السلاح الأمضى في ردع الظالم، وهو على رغم بساطته، كان ما خذل الأنظمة الديكتاتورية وجردها من أي قدرة على قمع حركات الاحتجاج ضدها، هي معادلة خطرة لكنها أثبتت نجاحاً منقطع النظير، في تونس والقاهرة وبني غازي، يحدد الناس موعدهم مع السلطة ويجتمع الفريقان، وكأن قوله تعالى يمضي في أمر البشرية (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة). لكن الأخطر والأصعب كان إشراك العامة في معلومات الخاصة، ولا يمكن لأي أحد أن يتوقع أو يتصور مدى التأثير الذي ستنتجه في المستقبل القريب أو البعيد على علاقة الحاكم بالمحكوم، فقد خرقت بعض الحكومات مواثيق الشرف في ما بينها وسربت أشرطة وتسجيلات تدين بعض قادتها واتصالاتهم الهاتفية، وهو أمر غير مسبوق، فالتقنية الرخيصة أتاحت لفلاح في قرية نائية أن يستمع لأسرار دولته ويقرأها عبر «ويكليكس» و«يوتيوب» في ثوانٍ من نشرها، من دون أن يعرف سياقها، ولا المناورة التي قيلت من أجلها. إنه اطلاع غير مكلف رخيص العواقب، بل لا عواقب تترتب عليه، إذاً هو أمر الخاصة صار بين أيدي العامة يقلبونه حيث شاءوا. لقد بدأ الأمر بتسريب وثائق «ويكليكس» التي انتفض منها معمر القذافي وأحس بخطورتها على نظامه وسماها «كلينيكس»، بالفعل هي «كلينكس»، فقد أسهمت في إزالة ما علق بتاريخ بعض الشعوب العربية من فساد وظلم وطوال عقود. لكنها كما قلت قربت العامة كثيراً من طريقة تفكير وأسلوب عمل الحكومات وأفرادها، بعدما كانت تلك الأنظمة تضع نفسها في منزلة الآلهة لا تُسمِع الشعوب إلا ما تريد ولا تُريها إلا ما ترى. إذاً يا سيدي العام العجيب: ارحل ولملم معك أحلامنا وآلامنا وضحكاتنا، وكل ما نتمناه منك ألا تسلم خنجرك الأحمر لأخيك العام المقبل، سلمه فقط قفازك الحريري، وانثر الأرواح الطيبة في أرجاء عالمنا، فهل أخذت من الأرواح الشريرة ما يكفي؟ أتمنى ذلك. [email protected] twitter | @dad6176