صدر القرار بالتوزير فانهالت التهاني والتبريكات والدعوات لعل الله يستبدل الذي هو خير بمن سلف، ويستطيع أن يَزِرُ عن السُلطان أثقال ما أُسند إليه من تدبير أحوال وحوائج الأمة، فلم تعد الوزارة وجاهة بعد القسم، أو مغنماً يسوق صاحبها إلى التفاخر وكسب الغنائم، فالاشتقاق اللغوي وزر، والوَزَرُ هو الجبل الذي يُعتَصمُ به ليُنجي من الهلاك. نسف السباق العربي نحو التوزير اشتقاقها اللغوي والأخلاقي، فرصد لنا التاريخ مسرحاً وزارياً هزلياً مرتفع الأصوات والوعود قليل الحركة والبركة، تتغير الأسماء وتتعدد الوجوه، والحال تنشد عن الحال هذه هي الحال! يبدأ الوزير العربي يومه الأول وسط ارتباك كراسي مسؤولي وزارته، فمدير مكتب الوزير السلف يتصبب عرقاً من عناء ليلة قضاها أسيراً في أحضان ضبابية المستقبل، يستمر أو لا يستمر، يكون أو لا يكون، والأقرب هو قابع لا محالة في غرف المستشارين التي تزداد أعدادها طردياً مع حركة التغيير الوزاري المتكررة، ونرى في الأردن والكويت على سبيل المثال ترسيخاً لثقافة التوزير العربية المرتبكة والمملة في التكرار وعشوائية المدة، ما أثر على قيمة ومكانة وأثر التوزير، وفرض مؤشراً لبطالة تنمو عاماً بعد آخر مرصعةً بنجوم وزارية ووكلاء وزارات ومديري مكاتب وزراء؛ وفي دول عربية أخرى تتجسد ثقافة النقيض، فهناك بطالة قوائم انتظار التوزير، تُحفِي الأقدام، وتجفف الأقلام، وتُتعِبْ الأجساد من عناء «الترزز»، وليل هؤلاء طويل ومحبط في معظم الأحيان، لأن أوهام الرضا لم تعد مقصورة على كلمات الشكر، أو الابتسامات ممن فوقهم، فالحسابات العربية متقلبة ومربوطة بعناية فائقة بمهارة الوزير في فهم متطلبات المرحلة السياسية، وليست كفاءة الأداء التنموية! أسباب ارتباك التوزير في الأحوال العربية أنها لا تأتي وفق منظومة استراتيجية وتخطيطية ورؤية واضحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، يندمج فيها الوزير الخلف ويكمل مسيرة الوزير السلف، فكل وزير جديد يأتي يرث تركة ثقيلة تنكشف باكراً مع تصريحاته الأولى عن التحديات التي تواجه وزارته، والمرحلة الدقيقة والحساسة التي تتطلب تضافر الجهود للتغلب عليها! تنهال على الوزير في أيامه التوزيرية الأولى ملفات تحمل تقارير ودراسات تطويرية أُهملت أو فشل تنفيذها، يُقَلّبُ صفحاتها، ويستعرض توصياتها، ويكتشف أن الزمن عفا عليها ولم تعد صالحةً للتغلب على التحديات التي تواجه قطاع وزارته، فيلجأ للشركات الاستشارية لإعداد دراسات جديدة للتطوير والتغيير، بغض النظر عن سجل الأموال المهدرة على دراسات متراكمة منذ عقود تحكي قصة إنجازات الوزراء؛ وبعد اجتماعات وورش عمل يحضرها جيش من المستشارين تبرز التوصيات وتُبلور إلى خطة عمل يُعلن عنها الوزير الجديد مزهواً، ويبدأ حلم تنفيذها فما يكتب في الأوراق جميل وأخاذ، والميدان التطبيقي مختلف في الجهد والممارسة والأداء، ولذلك تحدث العلماء عن الفرق بين النظرية والتطبيق، وما أبدع العرب في نظرية الهرج والمرج، وفي التطبيق يكفي أن أقول: انظر من النافذة على صراع المسؤولين العرب مع البنية التحتية لأنابيب الصرف الصحي! الوزير يريد، موازنة تمكنه من الصرف على تنفيذ خطته التطويرية، ويريد مميزات جاذبة لطاقات بشرية مؤهلة، ويريد برامج للجودة، وأساليب حديثة لتقويم الأداء وتقديم الحوافز للمنتجين والمبدعين، ويريد نظاماً رقابياً متطوراً ومؤهلاً، ويريد صلاحيات تحرره من قيود الوزارات السيادية (ويريد...)، وفي رحلة البحث يصطدم بمقولة أصبحت موروثاً لدى المسؤولين عن الشؤون المالية والإدارية في الوزارات المغلوب على أمرها «الجود من الموجود يا وزير»؟! تبدأ مرحلة الانكفاء إلى أعمال اللجان واللجان الفرعية واللجان المنبثقة واللجان المتفرعة وفرق العمل، والمواجهة مستمرة مع المفهوم «العجزوي» الذي نخر في هيكل الوزارات وجعل من معظمها قاعاً صفصفاً، الإحباط يحيط بها من كل جانب، ومعظم الموظفين مشغولين، إما بمتابعة أسواق الأوراق المالية، أو أعمال خاصة لا يستطيعون إدارتها إلا من خلال أجواء وظيفية حكومية؟! تهبط همم الوزير بعد نفرة السنة الأولى ويستسلم للأمر الواقع، ويبدأ مرحلة التشكي في مجالسه الخاصة جداً للتحضير لشهادة الشهود العدول، ولم يعد أمامه من مخرج إلا التوجه صوب المسؤول عن الشؤون الإعلامية في وزارته، يبدأ بالاستفسار عنه وعن مؤهلاته، ويقرر دعم إدارته بخبير إعلامي، عادة ما يكون أستاذاً في كلية للإعلام من إحدى الجامعات، ويُكلف بإعداد سياسة إعلامية تُحَرك مياه الوزير الراكدة أمام حركة التساؤلات التي بدأت تُطرح عن أداء الوزارة والتطوير المنتظر. يلهث الوزير خلف الإعلام، مناشداً ومبرراً وواعداً بمستقبل زاهر، ويدعم أحاديثه الصحافية بصفحات تحمل صور المشاريع الموعودة والرسومات البيانية المُتَرْجِمَة للواقع ورؤية للمستقبل، ويخوض بعدها الوزير - المتحرك في مختلف الاتجاهات الإعلامية - مواجهة نقدية حادة من كتّاب الرأي تناولت النتائج المتردية والأداء السلبي الذي حل بالوزارة، ويستشيط الوزير المبجل غضباً من حملة كتّاب الرأي على شخصه وعلى وزارته، ويقرر تجميد نشاط المسؤول من الشؤون الإعلامية (للمعلومية هو لا يستطيع إعفاءه من منصبه) ويعين المدير العام لمكتبه مشرفاً عاماً على إدارة العلاقات العامة والإعلام، الذي بدوره يستنجد بمستشار جديد لإخراج الوزير من ورطته مع كتّاب الرأي؛ ومن يريد معرفة ماذا تم بعد ذلك عليه أن يوجه السؤال لكتّاب الرأي (وأنا أحدهم)، عن الكيفية التي استطاع بها الوزير تحويل السلبي إلى إيجابي، والشرس إلى محايد؛ ولكي لا يذهب تفكير البعض بعيداً، أو تحميل الأمر أكبر مما يحتمل، فأنا أتحدث في إطار الحكمة الوزارية والموعظة الحسنة. * كاتب سعودي. [email protected] twitter | @alyemnia