أعترف بأن «الجهيمان»؛ أعني أديبنا الكبير الراحل عنا أخيراً عبدالكريم الجهيمان، خلصني من ورطة كانت محدقة بي وسأقع فيها لا محالة، لولا ستر الله في لحظة لا تحسب إلى الزمن، بقدر ما تحسب بنبضات القلب المتصاعد على وتيرة الترقب والقلقذاك يوم كنت بمعية ثلة من المبدعين السعوديين في قطر مشاركاً في الأسبوع السعودي الثقافي هناك، كانت حصتنا من هذا الأسبوع ساعة ونصف الساعة مقسومة على عبده خال وبدرية البشر وأميمة الخميس وسحمي الهاجري وكاتبكم المتضائل أمام الوقت المشتعل آنذاك بشهادات الرفاق. يومها لم أكن أضمر في دخيلتي موضوعاً محدداً يمكن الحديث عنه، ولكراهيتي لاستعراض تجربتي المتواضعة فقد آليت على نفسي ألا أباهي بها فوق المنصات والمنابر الثقافية، قبل تلك الأمسية جرت بيننا ممازحات كثيرة خلقت بيننا صفاء روحانياً رائقاً، قلت لبعضهم: أنتم بمثابة أساتذتي، فقد تعلمت منكم الحرف قبل أن أشب عن الطوق، لأني قرأت لكم باكراً فأنتم شيوخي، فتدافعوا ينفون عن أنفسهم تهمة أو مسبة الكبر، كما انتابتهم ضغينة وقعت في نفسي موقعاً حسناً. عشية انطلقنا بمركباتنا الفارهة المخصصة لنا إلى موقع الأمسية، كنت اسأل نفسي بصوت مسموع: ماذا عسى أن أقدم للمنتظرين هناك، الدكتور سحمي أعاد لي الخيار ذاته الذي طالما هربت منه، فلذت بصمتي حتى دقت ساعة الصفر معلنة انطلاقة كلماتي المنتظرة، عقب شهادات الأربعة السابقين، وقد منح كل واحد منهم ربع الساعة وليس في فمي سوى الهواء الذي أتجرعه مع كل نفس يدخل ويخرج، بخواء مفرط بالتيه، عند تلك اللحظة وبعدما أعلنت مديرة الأمسية الدكتورة كلثم جبر عن فرصتي المقررة مسبوقة بتعريف موجز لي، في تلك اللحظة لم أكن أدري كيف جالت عيناي بين العيون المحدقة، فغاصتا فجأة كحمامتين تؤولان لعشهما ما بين سواد كحل وعينين رامشتين بدعة وكأنهما تفرجان عن ذاكرة مخبوءة، جذبتني إلى عمق الماضي الدفين فرحت أتلو سفراً من الماضي، رأيتني صغيراً ألتقط لهاثي عبر أزقة تغشاها عتمة المساء، أحاذي جدراناً مسكونة بحكايات لم تجف، باحثاً عن وجه عزيزة، وعينيها السابغتين باللهفة لساعات الحضور، إذ كنا نقعي فوق عتبات الباب الحديدي الموارب منصتين لجوقة الكون ترافق حكاياتنا الصغيرة، في ليلة سقطت من حساب الزمن، رحلت عزيزة، وسقط معه ألف باب موارب كان يمتشق حكايات بريئة وقعت حينها في هوة حزن لم يبرأ حتى انتشلني «الجهيمان» بأساطيره التي ملأت فضائي المتسع لكل لهفة مخبأة، جذبته جدتي من تحت وسادتها الملتصقة بالجدار، على رأس سجادة صلاتها وقالت لي: اجلس أمامي واقرأ، كنت كمن يكتشف الحرف للمرة الأولى، قرأت وفي روحي معزوفة كونية ملحقة بعزيزة الغائبة، في كل ليلة أقرأ لها حكاية، حتى انتهينا ولم انتهِ، أخذته معي إلى غرفتي، وأبحرت مع كل تفاصيل الحكايات المشبعة بالغرابة، حتى حفظت شطراً منها لأصبح «حكواتي» الفصل بلا منازع، فساعة يشتد التوق بمعلم الفصل لسيجارة يمزها ثم يعود يوقفني أحكي لهم من أساطير الجهيمان. قلت في تلك الأمسية أني بدأت أدخر مصروف الفسحة الذي لم يكن يتجاوز الأربعة قروش لشراء القصص المتناثرة بين جنبات مكتبات البطحاء، كنت أسرق الوقت بعيداً من الأقران وأقتحم مسارب الأزقة المجهولة حتى أصل، وفي كل مرة أسأل عن أساطير الجهيمان غير تلك التي حفظتها عن ظهر قلب فيرتد الجواب مخيباً للآمال، والخيبة الأكبر عندما أكتشف سقوط القروش المخبأة في جيبي من شق لعين وغادر، لأعود أجرجر أذيال الخيبة بنصف حيرة ونصف بكاء. سردت هذه الحكاية المغموسة بالكحل في قرابة نصف ساعة من دون مقاطعة، وقد أعدت خلالها اعتباري لنفسي بما يليق بها من حضور، واعتبار رفاق الأمسية أن رددت إليهم أعمارهم الحقيقية، إذ رأوني أكبرهم بنحو 100 عام. انتهت الحكاية واتقدت الأكف لتزيل عن روحي المطمورة بنصف حيرة ونصف بكاء لأعود إلى الأعين الغارقة بالحزن وأنا مبتل بنصف حلم ونصف كحل، وروح الجهيمان ترفرف حولنا. لم يكن يدور في خلدي قط كيف اقترنت أساطير الجهيمان بحال الفقد التي تجرعتها جراء انقطاع مسامرتي لعزيزة إثر رحيلها عن الحي، ولم أفكر ليلة الأمسية بتاتاً بأني سأستحضره بين الجالسين، هذا الرجل الذي عفا عنه ملك الموت حتى تخطى ال «100» عام، في شقها الأخير عزلة غيّبته عن كثير من محبيه، عدا بعض المترددين عليه في بيته كعادة لم يقطعها سوى الموت. حين عدت من قطر عدته في بيته وجلست إلى جانبه أُسمِعه طرفاً مما كان يجول في خاطري، إلا أن الصوت كان يرتد بخواء من ثقل يقترب من الوقر، كنت قد اعترفت له بفضله عليّ شخصياً، تسلمت يده الناحلة مصافحاً للوداع والضجيج الذي خلفته أساطيره داخلي، يقابله سكونه المستسلم للنهايات. ليلتها التقيت بعض من أعرفهم وكأنهم اقتفوا أثر معلمهم وأسلموا أنفسهم للنسيان، ولذلك قررت صدقاً ألا أعود حتى لا تأخذني نوبة الغفلة، أو إن شئتم فقولوا طوق الإهمال الذي ضرب حوله، هذا التاريخ لم يتوج في حياته بما يليق به، فجائزة على هامش مهرجان أو معرض لا ينصفه، كان من حقه - في حياته لا عقب وفاته أن يغدق عليه - متسنمو سدة الثقافة بما يستحقه، وهو الرجل الذي أسهم في وضع لبنات تنويرية تحمل تبعاتها في شبابه ليعد واحداً من مؤسسي الوعي وتحرير الصورة النمطية للإعلام ونقلها من كونها ساكنة إلى متحركة، هذا إلى جانب ما كشفت عنه المعلومات الأخيرة التي زودني بها الأستاذ محمد القشعمي تضمنت أرقاماً كبيرة تسفر عن أياديه البيض على بعض الجهات منها: مليون ونصف مليون ريال قدمها لمدارس السهباء بالخرج، ومليون ريال لجمعية الأطفال المعوقين، و500 ألف لدار المسنين، ومثلها لأصدقاء المرضى، و300 ألف لأحد المراكز العلمية لجامعة الملك سعود، و200 ألف ريال تركها للمحتاجين من طلاب الجامعة. بعد كل هذا ماذا يمكن أن يقال؟ صدقاً لا أدري، وهل يكفي كل هذا الصوت الذي جاء بعدما فات الفوت، وكأننا نبحث عن فعاليات إعلامية تستثمره لتغطية جداولها الزمنية الفارغة؟ فكم من عظيم رحل عن وجوده الملفوف ب «قماط» الصمت والتجاهل... فهل سيدور هذا البرواز الواحد لكل الصور الكبيرة؟ * كاتب وروائي سعودي. [email protected] twitter | @almoziani