أطل الأديب السعودي الراحل عبدالكريم الجهيمان (1914 - 2011) من شرفة عالية نحو قرن من الزمان، عايش فيه وكابد وأبصر أحداثاً وتحولات عاصفة. تفتح وعيه قبل أن يمتد ويستوي وطنه على جغرافية موحدة. كان الرائي في الظلام، زاده المعرفة والتطلع إلى قيم ومبادئ اجتماعية وانسانية. تقلبت حياته في مراحل وحقب من الغليان الفكري والسياسي، لكنه ظل صلباً في مواجهة الأفكار التي لا يؤمن بها، أو يشعر بأنها مجرد فقاعات تحلق في الفضاء قليلاً من الوقت، قبل أن تذهب إلى العدم، لذلك لم يتلون بأي شعار سياسي، ولم تستدرجه غواية الأيديولوجيا، يساراً أو يميناً. أساطيره وحكمه شكلت وجدان أجيال من المثقفين والكتاب وسواهم، ووثقت نمط من الوعي الاجتماعي وطريقة معاش وأحلام وآمال أناس في لحظة زمنية محددة. ووفرت مادة خام للدراسة والبحث في تلك المرحلة من عمر المجتمع السعودي. يعتبر أحد رموز التنوير والإصلاح الاجتماعي، حمل قلمه وكتابه وأخذ في مقارعة الجهل والأمية. فطالب منذ البدايات الأولى في كتاباته بتعليم المرأة، وقت لا يوجد من المتعلمين الرجال سوى القليل، كما دافع عن حرية التعبير. كانت القاهرة أول مدينة رأتها عيناه خارج حدود السعودية، فأحدثت تلك الزيارة تحولات جذرية في تفكيره الاجتماعي، إذ أدهشه الفارق الكبير بين «مجتمع محدود كان يعيش فيه، ومجتمع يعج بالصراع والتنافس». لكن ما لبث أن توسعت رحلاته في الخمسينات الميلادية، لتشمل مدناً أوروبية، بدأها بباريس، التي ألف فيها كتابا، «ذكريات باريس»، فكانت صدمته الحضارية كبيرة، إذ يذكر بصدمة التنوريين العرب في زيارة، مشابهة فالكاتب كغيره من الكتاب العرب الذين سبقوه إلى هذه «المغامرة الغربية» ما ان وصل إلى فرنسا وباريس حتى اكتشف بنفسه سلسلة من شواهد الفروق والاختلافات التي لا بد وأن تولد وتعمق الوعي بتلك «الهوة الحضارية» بيننا وبين الغرب، وهذا الوعي هو ذاته منبثق الكتابة العربية الإصلاحية - التحديثية». النساء وسورة يوسف «ولدت بين أبوين من قريتين متجاورتين من بلاد الوشم هما غسلة والوقف» هكذا سرد بعضاً من سيرة حياته، «فوالدي وأعمامي في غسلة، وأخوالي ووالدتي في الوقف. وعندما كبرت سألت والدتي عن سنة مولدي فأخبرتني بأنني ولدت قبل سنة الرحمة بخمس سنوات. وسنة الرحمة في عام 37 بعد ال300 للهجرة، وهي سنة اجتاحت فيها الكوليرا بلاد نجد وغيرها، فتركت البلاد بلاقع. وكان الرجل يمشي في الشارع فيقع على الأرض فلا يرفع إلا جثة هامدة. وكان أهل البيت الواحد يقعون مرضى. فلا يستطيع أحد منهم أن يخدم أحداً. وخلت بعض البيوت من سكانها وسميت سنة الرحمة تفاؤلاً برحمة الله للأموات فيها كما يسمي العرب الصحراء المهلكة بالمفازة وتفاؤلاً بالفوز». تطلق والداه مبكراً، فنشأ بحنان ناقص، تزوجت أمه ورحلت ولم يكن يراها سوى في أوقات متباعدة، يفرح إذا جاءت لزيارته، وحين تهم بالعودة إلى القرية التي تقطن فيها مع زوجها، وبعد أن ييأس من مرافقتها، يسبقها إلى مرتفع في نهاية القرية، «وملأت حجري من الحجارة، فإذا مشت في طريقها إلى قرية زوجها جعلت أرميها بالحجارة وهي مدبرة لا تراني ولو أنها نظرت إلي بعينيها الحنونتين ووجهها الباسم المليء بعواطف الحب والشفقة نحوي. لو أنها فعلت ذلك لتبخرت أحقادي نحوها. ولكنها تسعى في طريقها غير ملتفتة إلى الوراء، مع كل حجر أرميه ينطلق معه دفقة مما أحس به نحوها وما أشعر به من آلام». حرصت أمه على تعليمه القراءة والكتابة، وكان يجدها مع بعض النسوة، «يستدفئن بالشمس في أيام الشتاء وبعضهن تخيط ثوباً جدياً والأخرى ترقع ثوباً قديماً ومنهن من تنسج حصيراً من خوص النخل ومنهن من تغزل صوفاً». وكانت تدعوه في كل مرة يأتي فيها إليهن مجتمعين، ليقرأ عليهن سورة «يوسف»، تحديداً. تابع تعليمه بين قريته غسلة ومدينة الرياضومكةالمكرمة، إذ تخرج في المعهد العلمي السعودي، الذي تأسس قبل توحيد المملكة. وخلالها شهد معارك بين جنود الإمام عبدالعزيز وجنود شريف مكة الحسين بن علي بقيادة ابنه عبدالله انتصرت فيها قوات الإمام وكانت التمهيد لافتتاح الحجاز. بعد ذلك عمل لسنوات طويلة مدرساً ثم مديراً لإحدى المدارس، ودرس أبناء عدد من أفراد الأسرة المالكة كولي العهد آنذاك الأمير سعود بن عبدالعزيز وسواه من الأمراء. وحدث أن القى قصيدة بين يدي الملك عبدالعزيز ولاقت إعجابه. التحول الجذري في حياته سيحدث في العام 1953 حين انخرط في الكتابة الصحافية، حين أسس مع احدى الشخصيات، عبدالله الملحوق، أول صحيفة في المنطقة الشرقية وكان اسمها «أخبار الظهران». تجربة الصحافة شكلت انعطافة مهمة في مسار اهتماماته، وأعطت مساحة واسعة للقيم والمبادئ الاصلاحية التي كان ينادي بها. فبعد حياة طويلة قضاها في التعليم، ومحاربة الجهل والظلام، وجد نفسه يخوض معركة أخرى ضد الظواهر السلبية في المجتمع ومؤسساته الناشئة آنذاك. ترأس إدارة التحرير في تلك الصحيفة مدة ثلاث سنوات، قبل أن تتوقف عن الصدور ويتم إيقافه هو في غرفة منفردة طولها مثل عرضها أربعة أمتار تقريباً في أربعة، وفيها شباك واحد أغلق وأحكم إغلاقه. وكنت في بعض الأحيان أقرع الباب فلا يسمعني أحد فأصبر قليلاً ثم أعاود قرعه. فإذا فتح لي قال لي الجندي ماذا تريد؟ فأخبره فيرافقني إلى الحمام حتى أنهي مهمتي فيعود إلى الحجرة ويقفل الباب. وبقيت في هذه الحجرة 21 يوماً كنت أقسم الأوقات فيها إلى أقسام». كان ذلك بسبب نشره مقالاً لشخص مجهول، يدعو فيه إلى تعليم المرأة. وخلال رئاسته لتحرير «أخبار الظهران»، التي أصدرت أول أعدادها من بيروت، ولاحقاً في أكثر من صحيفة، كتب الكثير من المقالات، ودعا فيها إلى أمور كثيرة، مثل انشاء وزارة تعنى بالشؤون الاجتماعية، وتأسيس جمعيات وطنية لمساعدة الفلاح، والمحافظة على ثروات البلاد، وإلزامية التعليم والاهتمام بشؤون البادية والقرية، كما دعا إلى الاعتدال في النقد، وكان «يستقي مواضيعه من معاناة الناس وهموم أبناء الوطن، ويطالب بالإصلاح ويدعو إلى النقد القائم على مصلحة الوطن والمواطن». في كتبه: دخان ولهب، أين الطريق، أحاديث وأحداث، ذكريات باريس، ودورة مع الشمس، كان أسلوبه بسيطاً ومباشراً، يعالج مواضيعه بسهولة تصل إلى القارئ من دون تعقيد. لم تقتصر مواضيعه على الداخل، بل راح يتفاعل مع ما كان يحصل على الصعيد العربي، في ما يخص القضية الفلسطينية اشتهر بزاويته «المعتدل والمائل»، التي كان يكتب فيها عما يراه معتدلاً أو مائلاً من أحوال المجتمع والأمة العربية. ومن الأوضاع المائلة في الزمن الحاضر يقول: «كثيراً من الشعارات التي تتحدث بها بعض الدول فارغة من المعنى. فأنت إذا تابعت أعمالها لم تجد أثراً لهذه الشعارات التي يطنطنون بها ويملأون بها الدنيا صخباً وضجيجاً. وأول هذه الشعارات التي كنا مسحورين بها شعار الوحدة والحرية والاشتراكية. ونحن نقبل الاشتراكية على أنها اشتراكية الإسلام. ولكننا نرى أن هذا الشعار لم يوحد دولتين متجاورتين، مع أن ناشر هذا المنهج شخصاً واحداً معترفاً به من كلتا الفئتين». ماركس و«رأس المال» ومرة أخرى وجد الراحل عبدالكريم الجهيمان نفسه يدخل السجن، لكن لفترة أطول هذه المرة. أدرج اسمه ضمن شبكة من الأسماء كانت توزع منشورات «وتنادي ببعض الشعارات التي أطلقتها بعض الثورات في العالم العربي»، ووجد نفسه يواجه مصيراً مجهولاً، إذ لا علاقة له بهذه الشبكة ولم يكن وحيداً، إذ كان رفيقه الناقد المعروف عابد خزندار، الذي يقول عن هذه التجربة مع الجهيمان: «كانت الأيام التي قضيتها معه على ضيق السجن وقيوده وضنكه من أسعد أيام حياتي، وقرأت عليه كتاب الأغاني للأصفهاني غير مرة، وأنا أدين بثقافتي العربية للجهيمان الذي كان يشرح لي بصبر ما استغلق علي من شعر العرب، ويكشف لي عن طرفه ومناحي الجمال فيه، وكنا لا ننام من الليل الا أقله وكان يقص علينا حكايات نجد وأساطيرها». وحين التفتيش في ممتلكاته، عثرت لجنة التحقيق على كتاب «رأس المال» لكارل ماركس، وواجهوه بأن الكتاب يدعو إلى الشيوعية، وكان يعرف ذلك، وأوضح لهم أنه اشترى الكتاب «لأنني سمعت أنه أحد كتب خمسة أحدثت تغييراً في شؤون العالم وأنظمة الحكم، فأحببت أن أقتنيه، وأن أعرف ما فيه من باب العلم بالشيء ولا الجهل به»، فاستطاع أن يقنعهم، وبعد أن ثبتت براءته من المنشورات وما تدعو إليه أطلق سراحه. طفل يلهو بالحياة قبل أن يرحل وبعد نحو 60 سنة من العيش في خضم القضايا والمطالبات بالإصلاح الاجتماعي، وبعد معارك مع الحياة ومع أنماط من الوعي وأخلاط من البشر والشعوب وعدد كبير من المدن العربية والأوروبية، ظل يواصل حياته متمنياً أن يكون قدم ما ترضى عنه نفسه ويقبله وطنه. حياته الشخصية كانت بسيطة وبرنامجه اليومي لا يتغير، كما أنه تميز بالطابع الاجتماعي، فكان يحب الرفقة ويعشق السفر. تقول عزيزة فتح الله في كتابها «وشم الذاكرة»: «أبو سهيل لمن لم يسافر معه، فهو لا يعرفه فهو إنسان منظم تجد في شطنته كل شيء، من الخيط والإبرة، قصاصة أضافر، المكوى، كريم الشعر، مكنة الحلاقة الكهربائية، ساعة منبه، وأي شيء آخر وأقل عمر لشيء من هذه الأشياء عمره يزيد على 20 سنة، وكل ما تسأله مريم عن شيء يقول: هذه اشتريتها من باريس أزيد من عشرين سنة». وكان لا يتنازل عن ممارسة السباحة ساعتين في اليوم، وبعد المسبح ينام لمدة ساعة أو أكثر، وحين يستيقظ، يتناول طعام الغداء، الذي يكون عبارة عن طبق صغير من الخضراوات وكأس عصير، ثم ينام مرة أخرى، ليصحو الساعة السادسة والنصف، كي يتمشى لمدة نصف ساعة، وعند عودته يشرب كأسا من الحليب ثم ينام، ويصحو كي يسهر». يقول عنه الدكتور غازي القصيبي: «يجيئنا عبدالكريم الجهيمان محملاً بأساطير الجزيرة كلها، حتى لنحسه أسطورة من أساطيرها، ويروي لنا مثلاً بعد مثل حتى لنظنه أصبح بشخصه مثلاً سائراً يردده السمار». ويصفه الشاعر محمد العلي ب«طفل يلهو بالحياة». سادن الأساطير عبد العزيز السبيل: مجموعة رواد في شخصية القشعمي: كان رجلاً لا ينافق ولا يجامل عبدالله الغذامي: نجح الجهيمان وأخفق توفيق الحكيم معجب الزهراني: رائد إصلاحي كبير سعد البازعي: كاتب أقرب إلى السيف أو البندقية