في خريف العام 1893، لفظ الموسيقي الروسي الكبير بيوتر تشايكوفسكي، أنفاسه الأخيرة في غرفة كانت مخصصة له في منزل أخيه مودست في سان بطرسبورغ. التقرير الرسمي عن موت تشايكوفسكي قال ان اصابته بداء الكوليرا كانت هي سبب الوفاة. غير ان هذه الحكاية ظلت ذات طابع رسمي لا أكثر، ذلك ان كثرا من مؤرخي حياة صاحب «بحيرة البجع» و «الكونشرتو الأول للبيانو والأوركسترا» يعتقدون ان الرجل مات منتحراً. وهؤلاء إذ أعوزتهم دائماً الأدلة الملموسة والموثوقة على هذا الانتحار، لجأوا الى عمله الموسيقي الكبير الأخير «السيمفونية السادسة» يدرسونها ويمحصونها ويتفحصوا كل حركة من حركاتها وكل نوطة من نوطاتها، مستنتجين من ذلك كله انه لا يمكن لمن كتب ذلك العمل إلا ان يكون مبدعاً يعرف انه يكتب عمله الأخير، ويعرف انه سوف يرحل من بعده عن عالمنا. والحال أن من يستمع الى الحركة الأخيرة في هذه السيمفونية التي سماها تشايكوفسكي «السيمفونية المؤثرة» بناء على اقتراح أخيه، يدرك أن هذه الحركة، في غرابتها وبطئها، أشبه بوصية فنية كتبها مبدع واضعاً فيها كل روحه. واللافت ان الحركة الختامية تختلف عن مثيلتها في أي سيمفونية أخرى عرفها تاريخ الموسيقى، بل إنها تحمل قدراً من الكآبة والشجن يتناقض مع المناخ المسيطر على الحركتين الأوليين من السيمفونية نفسها، وإن كانت الحركة الثانية، وهي الأضعف، تحمل ما يشبه الغناء الكورالي المستقى من تهليلة اورثوذكسية يردد فيها الكورس: «ألا فليرقد الى جانب القديسين!». مهما يكن من الأمر، فإن سيمفونية تشايكوفسكي السادسة هي سيمفونيته الأخيرة. والمفارقة ان هذا العمل حين قدّم بقيادة تشايكوفسكي نفسه، للمرة الأولى يوم 16 تشرين الأول (أكتوبر) من العام 1893 الذي أنجزت في صيفه، في مدينة سان بطرسبورغ، لم تنل حظها من النجاح أو حتى من القبول المحايد للجمهور... ولاحقاً سوف يعزى السبب الى ضعف قيادة تشايكوفسكي في شكل عام. والدليل على هذا، يقول المؤرخون، أن هذا العمل نفسه حين قدّم تحت قيادة المايسترو الشهير نابرافنيك، بعد ذلك بثلاثة أسابيع، صفق له طويلاً وأعيد إليه اعتباره واعتبر على الفور واحداً من أكبر الأعمال السيمفونية التي كتبت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر في روسيا. ولن يفوتنا ان نذكر هنا، على سبيل التوضيح ربما، أن تشايكوفسكي مات خلال الفترة الفاصلة بين قيادته للعمل وقيادة نابرافنيك له. وربما يكون هذا الأمر ساعد على استثارة حماسة الجمهور. أو ربما، في المقابل، يمكن القول ان الجمهور في المرة الأولى كان يعيش، موسيقياً وبالنسبة الى علاقته بتشايكوفسكي تحت وطأة بعض فضائح الحياة الخاصة لهذا الأخير... وهي فضائح يرى البعض انها هي ما دفعه الى الانتحار أو على الأقل الى الاستسلام أمام الموت يأتيه من طريق اصابته بالكوليرا. ولكن في الأحوال كلها بدت السيمفونية السادسة ازاء ذلك كله «اسماً على مسمى»: مؤثرة، حزينة، تصوّفية، تضرّعية. في اختصار، بدت عملاً يكتبه انسان يعرف ان هذا ما سيكون ختام حياته. وهو، لئن عاش حياته صاخبة، آثر ان ينهيها هادئة شجنة... وكان هذا مسار سيمفونيته الأخيرة تلك. بدأت حكاية تشايكوفسكي مع سيمفونيته السادسة، في خريف العام 1892، حين توقف عن العمل في سيمفونية أخرى جديدة كان يكتبها، ولم ينهها بعد ذلك أبداً، بل حولها الى كونشرتو للبيانو حمل الرقم 3، بين كونشرتاته. ثم في شباط (فبراير) من العام التالي، أسرّ الى ابن أخيه فلاديمير دافيدوف، في رسالة، انه انما ينجز سيمفونية جديدة، موضحا انها ستكون ذات برنامج (أي أقرب الى أن تكون قصيدة سيمفونية) لكن تشايكوفسكي قال في رسالته انه ليس في وارد الكشف عن برنامج سيمفونيته الجديدة. كل ما قاله اثر ذلك انها ستكون ذاتية الطابع، مؤكداً لابن أخيه، انه ذرف قدراً كبيراً من الدموع بينما كان يكتبها. وختم تشايكوفسكي رسالته قائلا ان هذا العمل سيحمل الكثير من التجديد المفاجئ، لا سيما في مجال حركتها الختامية التي لن تكون «أليغرو» صاخبا كالعادة -خصوصا عند الرومانسيين وفي أعماله الشخصية السابقة- بل ستكون «أداجيو» طويلاً وبطيئاً. وهذا العمل الذي وصفه تشايكوفسكي على ذلك النحو، كان هو بالطبع، السيمفونية السادسة. تتألف «السيمفونية السادسة» (وهي تحمل الرقم 74 بين أعمال صاحبها) من أربع حركات، أطولها أولاها، التي يستغرق عزفها قرابة ثلث الساعة، وهي من ناحية «برنامجها» تحمل ذلك القدر من الحسّ المأسوي المكبل الذي هجس به تشايكوفسكي طوال حياته، إذ انها تبدأ بطيئة تنقل الى مستمعها حس الألم، وبعد ذلك، وفي شكل يكاد يكون مباغتاً، تنطلق الى شيء من الأليغرو من طريق استخدام آلات الترومبيت التي سرعان ما تخلي المكان للحن عاطفي يتمثل في ثاني الموضوعات الموسيقية وتقدمه آلات الكمان التي تنقل، من جديد، حسّاً مأسوياً سرعان ما يصل الى ذروته مع مقطوعة الكورال الأورثوذكسي التي تختتم بإيقاعات النفخ المتكررة التي تعيد المستمع الى أجواء الموضوعة الموسيقية الثانية والعاطفية. وفي الحركة الثانية (أليغرو كون غراتسيا) يعود المستمع الى الهدوء والاسترخاء بعض الشيء، لا سيما مع الفالس البسيط الذي وضعه تشايكوفسكي هنا وهو يحرص فيه على ازالة أي احساس بالتفاوت على رغم خماسية ايقاعه. وما ان ينتهي عزف هذا الفالس، حتى تعيدنا الموسيقى -على سبيل التذكير- الى أجواء الحركة الأولى مع ظلال الشجن التي تبعثها فينا. وكل هذا يأتي على سبيل التمهيد للحركة الثالثة (أليغرو مولتو فيفاتشي) ذات الصخب الحيوي، حيث تفعل الموسيقى فعلها في فرض مناخ من السرور على أداء الأوركسترا الجماعي ككل... هذا قبل أن ينبهنا تشايكوفسكي في الحركة الرابعة الأخيرة، الى ان تلك الحيوية لم تكن أكثر من طيف سرور عابر، حتى وان كان صخب آلات الإيقاع قد ختمه. ذلك ان هذه الحركة نفسها ترمي بنا في خضم الحركة التالية، والختامية الفريدة من نوعها. فهذه الحركة في بطئها وشجنها (الذي أعطاها اسمها كسيمفونية مؤثرة أو مثيرة للشجن) تأتي وكأنها علامة مسبقة على حس النهاية الذي كان تشايكوفسكي قد بدأ يستشعره: انها حركة تسيطر عليها الآلات الوترية الممزقة، مع محاولات اوركسترالية هنا وهناك للعثور على بعض أمل، لن يعثر عليه أبداً. والحال ان هذا ما جعل النقاد يقولون دائماً ان هذا الجزء من السيمفونية يكاد يكون المقطع الموسيقي الأكثر ذاتية، منذ بيتهوفن. أتى موت تشايكوفسكي بعد أسابيع من انجازه هذا العمل ليعطي لكل هذه الفرضية صدقيتها. ومهما يكن من الأمر، فإننا نعرف ان بيوتر تشايكوفسكي (1840 - 1893) عاش حياته كلها تحت راية الشجن، هو الذي بدأ مساره الموسيقي متأخراً بعدما عين وهو في العشرين موظفاً في وزارة المال في بلده روسيا، ثم التحق بمدرسة انطون روبنشتاين التي تخرّج منها بعد سنتين ليعيّن استاذاً للهارمونيا في كونسرفاتوار موسكو. وهو منذ تلك السن كان عرضة لمشاعر فياضة ونزعة بوهيمية عاطفية أملتا عليه معظم أعماله التي قد يستغرب المرء كيف تسنّى له ان كتبها، وهو الذي عاش حياة مفرطة في كل شيء، وكرّس حياته للحب والموسيقى فعرف النجاح في الاثنين من دون ان يمنحه ذلك أي دعة. وكان تكوينه كلاسيكياً ما جعله يقف معارضاً تيار الخمسة الروس (بزعامة بورودين). وعرف كيف يمزج الحداثة الأوروبية بالتنويعات الروسية في بعض أجمل أعماله، ومنها سيمفونياته الست والكونشرتات، والباليه («بحيرة البجع» و «روميو وجولييت» و «كسارة البندق»)، وأخيراً الأوبرات التي أبدع في مجالها بعض أروع الأعمال الرومنسية، من «يوجين أونيغن» الى «بنت الكبة». [email protected]