في ذلك الزمن كان من عادة الكثير من المبدعين الأميركيين أن «يحجوا» إلى العالم القديم حيث يعيدون اكتشاف جذورهم بعد قطيعة نسبية بين عالمهم وعالم أوروبا، دامت زهاء مئتي عام، تمكّن خلالها الأميركيون من صوغ حضارة مبدعة خاصة بهم، هي في نهاية المطاف مزيج من تراث حملوه معهم، وتراث هندي وجدوه هناك وتراث ثالث حمله معهم الزنوج الذين استقدموا إلى القارة الأميركية عبيداً. في المقابل كانوا قلة أولئك المبدعون الأوروبيون الذين يقومون بالرحلة المعاكسة - إلا إذا كانت الهجرة النهائية غايتهم -، فيتوجهون إلى «العالم الجديد» لاستكشاف آفاقه والنهل مما لديه. من هنا يعتبر التشيخي انطونين دفوراك استثناء. فهو كان من الأوروبيين القلة الذين، وسط إصرارهم على أوروبيتهم، خبروا ما لدى أميركا واستخدموه. وكان ذلك تحديداً من عمله الكبير «من العالم الجديد» الذي يحمل الرقم 9 بين سيمفونياته، وكان - على أي حال - آخر سيمفونية كتبها، وتعتبر حتى اليوم من أروع أعماله، إلى جانب «الرقصات السلافية»، وكذلك تعتبر من افضل الأعمال الموسيقية المتحدثة بشكل أو آخر عن أميركا بوصفها العالم الجديد. والحكاية تقول لنا انه، إذ توجه دفوراك إلى نيويورك بعد أن قبل تولي منصب مدير الكونسرفاتوار في تلك المدينة التي كانت راغبة في إقامة الصلات الثقافية مع أوروبا، كان كثير من أصدقائه وأهله في الوطن يسألونه عن حاله وعن مشاهداته، فكانت كتابته ل «من العالم الجديد» جوابه عليهم، لأنه اختصر فيها، في آن معاً، مشاعره الخاصة أمام هذا العالم المدهش، ومشاهداته وما سمعه هناك. من هنا اعتبرت تلك السيمفونية نوعاً من جسر ربط بين عالمين، كما اعتبرت نوعاً من مدوّنات كتبها موسيقي صاحب حس مرهف ونظرة ثاقبة، وتبدو أشبه بالمدونات التي يخطها على الورق قلم كاتب يزور العالم الجديد ويريد التعبير عما شاهده هناك. ومع هذا لا بد من أن نذكر هنا أن الفكرة الأساسية في تأليف دفوراك لسيمفونية «من العالم الجديد» لم تكن أصلاً فكرته حتى وإن كان من السهل أن تخطر على باله، بل أتت من لدن السيدة جانيت م. تاربر، مؤسسة الكونسرفاتوار النيويوركي، التي كانت تريد من الموسيقي أن يضع ألحاناً لقصيدة الشاعر لونغفيلو «أغنية هياواتا». وكان دفوراك قرأ القصيدة مترجمة إلى التشيكية، صحيح انه احبها كما سوف يقول لاحقاً لكنه لم يستسغ أبداً تلحينها، بل فضّل أن يستلهم جزءاً من موضوعها، ويضيف إليه من عنده. وهكذا لم يخف دفوراك أبداً انه وضع الموسيقى الأساسية للسيمفونية في استلهام من حركتين في القصيدة: حركة «السكيرزو» انطلاقاً من رقصة «بو - بوك - كويس» التي تصفها القصيدة، وحركة «لارغو» التي تمثل جنازة رفيقة بطل القصيدة. وحركة ال «لارغو» هذه بالذات تعتبر أجمل وأقوى ما في السيمفونية، وهي عادة تستعاد في كل مرة يقدم فيها العمل، كما حدث تحديداً حين قدمت السيمفونية للمرة الأولى في قاعة «كارنيجي» يوم 16 كانون الأول (ديسمبر) 1893، وكان استقبال الحضور لها استثنائياً في حماسه. بدأ انطونين دفوراك كتابة موسيقى «من العالم الجديد»، حال وصوله إلى الولاياتالمتحدة، حيث كان في أول الأمر شديد الشعور بغربته ووحدته، عاجزاً عن التأقلم مع هذا البلد الجديد. ومن هنا يطبع السيمفونية مزاج حنين جعل دفوراك يقول لاحقاً إن السيمفونية ليست عن «العالم الجديد»، بل عن انطباعاته هو عن هذا العالم. ولئن كان هذا العمل قد امتلأ باقتباسات من موسيقى الزنوج الحزينة الشاكية «الصاول»، وكذلك بإيقاعات هندية وبشتى ألوان الفولكلور الذي اكتشفه دفوراك مدهوشاً في القارة الجديدة، فإن العمل في حد ذاته كان ابناً شرعياً للموسيقى التشيكية البوهيمية. ويدعم هذه الفكرة أن دفوراك إنما أضاف عنوان «من العالم الجديد» إلى مدوّنات التوزيع الموسيقي لسيمفونيته في اللحظات الأخيرة قبل أن يبعث بها إلى انطون سيدل، قائد الأوركسترا الفيلهارمونية الذي كان أول من قدمها. في البداية أراد دفوراك أن يؤلف سيمفونية على مقام «فا» كبير، الذي كان المقام الذي بنى عليه سيمفونيته الخامسة قبل ذلك بعقدين، لكنه سرعان ما اتجه إلى مقام «مي» صغير الذي وجده أكثر تناسباً مع موضوع فيه اكتشاف وحنين وحزن في الآن معاً. وكذلك آثر دفوراك منذ البداية أن يعطي حركات سيمفونيته طابعاً دائرياً (روندو). وهو بنى هذا على استخدام غامض للأنغام جعل السيمفونية منذ الحركة الأولى تنتقل فجأة من «الاداجيو» إلى «الأليغرو» مدخلة مستمعها في عالمها مهيّئة إياه للاستماع إلى «لارغو» الحركة الثانية الذي كان ولا يزال يعتبر جزأها الأجمل. أما الحركة الثالثة فتنتقل إلى «الفيفاتشي» عبر «سكيرزو» مملوء بالحيوية، يأتي بعدما كانت الحركة الثانية التي تمثل جولة هادئة في السهوب الأميركية، هدّأت المستمعين وصرفتهم بعض الشيء عن الحركة الأولى التي كانت أدخلتهم مباشرة في العنصر الإيقاعي الذي شكل النواة الأساسية والذي بدا استلهامه أغاني الزنوج والرقصات الغرائبية واضحاً فيه. أما الحركة الرابعة النهائية (الليغرو كون فوكو) فهي الحركة التي تظل موسيقاها في أذهان المستمعين وذاكرتهم لفترة طويلة، خصوصاً أن دفوراك استخدم فيها، وربما بشيء من الإفراط، الرقصات الهندية. والحقيقة أن هذا التنوع المدهش الذي لجأ إليه هذا المبدع الموسيقي الكبير في اشتغاله على عمله الاستثنائي هذا/ إنما يعطي العمل وبشكل مبكر دون أدنى ريب، طابعاً يمكن أن نسمّيه عولمياً في معنى انه أتى أشبه بمزيج خلاق وتفاعلي بين الموسيقى - وأفكارها الخلفية - الآتية من آفاق عديدة ومن عدد من القارات لافت حيث نعرف انتماء الموسيقى الزنجية - ولا سيما في إيقاعاتها - إلى القارة الإفريقية، كما نعرف أن الموسيقى الهندية التي اشتغل عليها دفوراك في بعض لحظات هذا العمل إنما هي تنتمي إلى أميركا العميقة القديمة أي أميركا ما قبل كولومبوس، فيما أتت العناصر البوهيمية من وسط أوروبا واضحة جلية. ومن المؤكد أن هذا المزيج الفريد من نوعه في العمل السيمفوني كان تجديداً لا سابق له في هذا الفن، وربما أيضاً يصعب الحديث عن لاحق له اللهم إلا في بعض موسيقى جورج غرشوين الذي يقول كثر إن تأثره بسيمفونية «من العالم الجديد» كان جليّاً ومعلناً. منذ عرفت سيمفونية «من العالم الجديد» على نطاق واسع، ثارت من حولها مناقشات عدة. ففي حين رأى فيها كثيرون موسيقى أميركية خالصة، في مزيجها وروحها، رأى نقاد اكثر تعمّقاً أنها شديدة التعبير، أصلاً، عن تشيكية دفوراك، وأن العناصر الداخلة عليها من فولكلورات الأميركيين، إنما تأتي لتشدد من طابع الحنين ومن إحساس دفوراك بغربته، وأيضاً من حساسيته إزاء كل أنواع الموسيقى، ما يحيل أصلاً على ذلك الطابع المميز لموسيقى وسط أوروبا... تلك المنطقة/ المفترق التي تلاقت عندها شعوب وحضارات. والحال إن انطونين دفوراك لم ينتم في حياته إلا إلى أوروبا الوسطى تلك، وأكثر تحديداً إلى تشيكوسلوفاكيا، حيث يعتبر، حتى اليوم، ثاني أكبر موسيقي عبر تاريخها، بعد سميتّانا. ودفوراك ولد العام 1841 في قرية صغيرة غير بعيدة عن براغ، وهو بدأ دراسة الموسيقى كعازف في مدرسة براغ، ثم بدأ يجرب حظه في التأليف باكراً، متأثراً بمشاركته في تقديم أعمال سميتّانا، وأيضاً باكتشافه لأعمال فاغنر. وفي العام 1873 حقق دفوراك أول نجاح كبير له حين كتب «أناشيد» Hymnus ذلك العمل الذي كشف عن عمق وطنيته وتأثره بموسيقى السابقين عليه من مواطنيه. وفي العام 1875 التقى براهمز الذي شجعه طويلاً وساعده على نشر عمله الكبير التالي «ثنائيات مورافية». وهنا كان دفوراك قد أصبح من الشهرة بحيث انه حين نشر «رقصات سلافية» دعي إلى لندن ليقدمها ويحقق بها ذلك النجاح الذي قاده إلى نيويورك. وفي العام 1901 عاد دفوراك إلى براغ ليرأس الكونسرفاتوار ويحيا مكلّلاً بمجد وطني شهدت عليه جنازته القومية في العام 1904. ولقد كتب دفوراك 9 سيمفونيات، كانت سيمفونيته «من العالم الجديد» التي نحن في صددها هنا آخرها. كما كتب عدداً من الأوبرات ورقصات عدة استوحى معظمها من الأساطير التشيكية. [email protected]