يشير جان بودريار إلى عجز الإنسان المعاصر عن «إقامة التمييزات وإصدار الأحكام سواء في الفن أو الأخلاق أو السياسة». كثيرون هم اليوم من يترددون أشد التردد، ويحتارون كبير الإحتيار أمام الفيلم أو اللوحة أو القصيدة أو القطعة الموسيقية، فلا يعرفون «ما الذي ينبغي قوله»، ويحسّون أن المعايير التي ركنوا إليها، والنماذج التي اعتادوها لم تعد تفي بالمقصود كي تمكّنهم من البت في الأمر، والتمييز بين الصالح والطالح، بين الحَسَن والقبيح، الصحيح والفاسد. بل إن الأمر يطال حياتنا العملية نفسها. يتضح ذلك في عجزنا اليوم عن تكوين رؤية واضحة مبنية على تحليل مقنع لواقعنا السياسي، وحياتنا الأخلاقية، ولعل أهم تجلّ لذلك هو عجزنا المطلق عن التمييز بين اليمين واليسار. في محاولة لتبيّن المسألة يعتمد بودريار مفهوماً يعتقد أنه يشكل أحد المفاتيح الأساسية لتحليل واقع الحياة المعاصرة، هو مفهوم التشبّه Simulation، وهو يحدده بأنه «التظاهر بامتلاك ما لا نملك». فهو إذاً ليس مجرد إخفاء، لأن الإخفاء، على العكس من ذلك، «تظاهر بعدم امتلاك ما نملك». فبينما يكتفي الإخفاء بحجب الواقع وستر الحقيقة، فإن التشبّه يجعل اللاواقع واقعاً، واللاحقيقة حقيقة. إنه يعمل في الواقع، ولا يكتفي بحجبه وإخفائه. بهذا المعنى فالتشبّه ليس حتى تظاهراً، لأن التظاهر يقوم على مفهوم القناع، وبالتالي على معنى الاخفاء الذي لا ينال من الواقع ولا يهز أركانه، هذا في حين يعمل التشبّه على خلخلة مبدأ الواقع ذاته. توضيحاً لهذه الآلية يستعير بودريار حكاية لبورخيس يصف فيها هذه المحاكاة الساخرة ل «التشبه بالواقع»، حيث يقوم خرائطيو إمبراطورية بوضع خريطة مفصلة تغطي مجموع مجالها الترابي بدقة كبيرة. ومع أفول الإمبراطورية، تبدأ خريطتها في التفتت شيئاً فشيئاً... لا تعود الخريطة محاكاة لأرض، وإنما تتحول إلى استراتيجية للتّوليد: «أصبحت الخريطة هي التي تسبق الأرض وترسمها وتولدها»، لقد غدت، بفعل تشبّهها بالواقع، واقعاً يفوق الواقع واقعية. وتمكن التشبه من أن يجعل الأرض والخريطة «يتشابهان علينا»، بحيث يختفي الاختلاف الذي يسمح بالتمييز بين الأشياء، ويبرر وجود التجريد والخريطة والأرض والنموذج والمعيار. وهكذا فإن التشبه يعمل عمله في الواقع ذاته، فيقضي على إمكانية التمييز فيه بين الحقيقة والزيف، بين الفساد والصواب، بين الصدق والكذب، بين الخير والشر، بين الواقع والوهم... ذلك أن إستراتيجية «التشبّه» تجعل الواقع والوهم «يتشابهان علينا». فهي ليست افتراء على الواقع من شأنه أن يفتضح وقت ظهور الحقيقة، إنها لا تماثل آلية التضليل الايديولوجي، وإنما هي آلية تجعل الواقع يكف عن أن يكون واقعاً ليفوق نفسه ويغدو واقعاً فائقاً «من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء فائق لا مرجعية ولا محيط خارجياً له». يسعى التشبّه إذاً إلى إقامة إبستمولوجية فوضوية جرثومية أساسها خلق الشّبهات. من الطبيعي والحالة أن تعمل على سيادة التشابه، فتجعلنا لا نتوفر على معيار أو إطار مرجعي أو قاعدة منهجية أو ضوابط ويقينيات تصلح للتمييز بين الأشياء ورسم الحدود وتحديد المسارات وتثبيت الأسماء وضبط الآفاق وطرد الشبهات. * كاتب مغربي