لقراءة نظرية المحاكاة وتداولها ، كما لقراءة أي نظرية ، تاريخ هو فهمها الذي يخرجها من نمط إلى آخر ، ومن نسق إلى سواه ، تبعاً للموقع النظري الجديد الذي يعيد صوغها واستثمارها والتدليل بها وتعديلها ؛ لتكون قابلة للاستعمال بما يطابق معنى أعم ، ويلائم النشاطات الأدبية والفنية المختلفة. وقد تبدو الصيغ الاصطلاحية للتعبير عن دلالة المحاكاة أوضح ما يمكن التمثيل به على هذه القراءة ؛ فهل المحاكاة تقليد ، أم نقل ، أم تخييل ، أم تمثيل...؟ وهل هي إحالة إلى الجهة المرجعية في النتاج الأدبي أم إلى التعبيرية أم إلى الذرائعية أم إلى النصية؟ وذلك يفضي بنا إلى أسئلة القيمة: في جهة التقاليد والسُّنة وموقع القدامى الإبداعي؟ أم في جهة الأصالة والعبقرية الفردية وطاقات الإبداع والذاتية؟ أم فيما يجاوز هذا وذاك، ويمحو قيمته بحثاً عن الأنساق الكلية؟ هكذا تصبح نظرية المحاكاة وفي نسختها عند أرسطو تحديداً منطقة تقاطع تلتقي وتفترق عندها وجهات نظرية عديدة. وهي وجهات تثبت أرسطو وتمحوه ، وتعربه وتعجمه ، وتطابقه وتخالفه ، وتعيد صياغته وتنصاغ هي به. وقد نقول إنها - هكذا - تؤكد أهمية ما طرحه أرسطو ، وقد نقول إنها تكشف عن قصوره ، ولكننا قد نقول - أيضاً - إنها لا تعني شيئاً في جانب الإعظام لأرسطو وفي جانب الانتقاص منه ما دامت تستحيل هي ذاتها إلى حلقة من حلقات النظرية ، في سياق لا تبتدئه ولا تختمه بقدر ما تندرج فيه. لقد انتقلت نظرية المحاكاة لدى الرومان وفي الكلاسيكية الجديدة من معنى التعريف لطبيعة الأدب والفنون الأخرى إلى الإشارة إلى علاقة عمل أدبي بعمل أدبي آخر بحسبانه نموذجاً له. وربما يبدو هذا المعنى خارج إطار النظرية بالمعنى الفلسفي فهو مفهوم نقدي يقصد البحث عن منابع القيمة الأدبية ، وأساس الحكم عليها وتثمينها ، لكننا سنجده يقوم على تأويل لأرسطو بإحالة فلسفته للشعر إلى قواعد وقيود وأحكام ، وسنجده يتكئ في جهة العلاقة بين الشاعر (وهو هنا مثال لمطلق الأديب أو الفنان) والواقع لدى أرسطو إلى ما يجاوزهما إلى التقاليد التي تقوم عليها أعمال القدامى من اليونانيين ، وهي ما يمكن القول - من وجهة مقابلة - إن نظرية أرسطو كانت وصفاً لها وليس وصفاً لمطلق الشعر والفن والأدب. وهذا يعني أن إحالة المحاكاة إلى دلالة العلاقة بين القدامى والمحدثين تكتسب مبرراً نظرياً باكتشاف صلة بين القدامى والواقع والعقل ، بحيث يترتب النتاج الأدبي عليها ، ويصبح تالياً لها ، وليس للعلاقة المباشرة مع الواقع أو الطبيعة. ويعود معنى المحاكاة هذا - أول ما يعود - إلى الشاعر الروماني هوراس (-8 ق.م) الذي أحال في كتابه (فن الشعر) نظرية أرسطو إلى أحكام في النقد خارج منطقها التأليفي ، وجعلها مثلاً أعلى للنقد الأدبي في أوروبا ؛ فهو يدعو الشعراء إلى محاكاة شعراء اليونان ، وأن ينكبوا على آثارهم ليلاً ونهاراً. ومن الطبيعي أن تحمل هذه المحاكاة معيارية محددة لنماذج الإنشاء تجعلها في حيز التقليد والمحافظة على الموضوعات والشخصيات والأساليب. وقد تأكدت هذه المحاكاة لدى الناقد الروماني كانتيليان (-96م) الذي جعل المحاكاة لليونانيين مبدأ في الفن لا غنى عنه ، لكنه احتاط بما يخرجه عن الاستسهال واللفظية والتكرار ؛ فهي في حاجة إلى الموهبة ، وأن تكون لجوهر الموضوع الأدبي ومنهجه لا لألفاظه وعباراته ، ويُضاف إلى ذلك أنها تمارَس على قاعدة الاختيار والانتخاب التي تحمِّل المنشئين أهمية الاستيعاب لما يحاكون والاتساع في المعرفة بنماذجه. ونتيجة ذلك أن أصبحت الأصالة قاعدة محورية لديه ، فالمحاكاة لا تكفي ، ولا بد من مجاوزتها إلى الابتكار. هذا المعنى الذي يحيل النظرية الأدبية من الكشف عن طبيعة الأدب بالتوصيف للعلاقة بينه وبين الواقع إلى الكشف عنه بتوصيف العلاقة بينه وبين نماذجه المنجَزة ، هو ما يفتح النظرية على التاريخ الأدبي والتقاليد ، فيصبح الأدب نصوصاً يقلّد بعضها بعضاً. وليس من شك في أنه لا أحد يتصور في الأدب بداية لا سابق لها ، مثلما لا يتصور تكراراً واستنساخاً يطابق فيه اللاحق السابق ، وهذا هو مبرر المعرفة بأجناس الأدب وأنواعه ، فليس الجنس أو النوع نتيجة تفرُّدٍ بل نتيجة تقليدٍ وتوارد وتكرار ، وهو نفسه مبرر النظرية الأدبية فلولا التشابه الذي يجمع - بمعنى أو آخر - أنواع النتاج الأدبي وأفراده أكثر من الاختلاف الذي يباعد بينها لما كان هناك معنى للنظرية الأدبية. لكن المحاكاة ، بمعنى التقليد والتشابه وما في حكمهما ، تحيل -بالضرورة - على قاعدة التشبيه التي من شأنها إلحاق الناقص في الصفة بالزائد ، والضعيف بالقوي .. إلخ ، وبالفعل فقد كان تقليد الأدب الروماني لليوناني مطابقاً لتلك القاعدة ، فلم تكن براعة الرومان وحذقهم الأدبي في مستوى ما وصل إليه الإبداع لدى اليونان ، والمؤرخون يذكرون أنه لا يكاد يُعْرَف للرومان أدب قبل أن يتصلوا بالأدب اليوناني ، وأنه ازدهر أدبهم بفضل المحاكاة لليونان. وهذا يعني أن القيمة المقصودة هنا ليست المحاكاة بل الأصالة ، فالأصالة هي دلالة الإضافة التي تبرر الإنتاج ، وكل إضافة فيها معنى الزيادة التي تحيل هنا إلى الفردية والاختلاف ، فبلا أصالة ليس للإنتاج الأدبي مبرر وجود. وأحسبُ من الواضح أن دلالة الأصالة في هذا السياق لن تعني الإنشاء من العدم ، وخصوصاً إذا ما تأملنا في قصد الاستيعاب والتمثل في دلالة المحاكاة التي دعا إليها هوراس ، أو في الحاجة -لدى كانتليان- إلى الموهبة أو إلى الاختيار والانتخاب ، وفي مجاوزة السطح إلى العمق أي إلى الموضوعات وخططها. فالأصالة ابتكار لما تغدو به الأعمال جديدة ومختلفة من تحويل وتأليف. وقد انطوت نظرية المحاكاة في هذه الوجهة على ما يغذو الإضافة والاختلاف ، وذلك في بصرها بالنهوض الأدبي من خلال اللغة القومية التي يصبح التأليف الأدبي فيها علاقة قوة متبادلة بين التأليف واللغة. ونهضة اللغة اللاتينية وأدبها مثال على ذلك ، ومِثْلُها إنهاض الشاعر الإيطالي دانتي (-1321م) اللغة الإيطالية بدفاعه عنها وإنشائه مؤلفاته فيها ، وفي مقدمتها (الكوميديا الإلهية) على عكس الوجهة العلمية السائدة آنذاك في التأليف باللاتينية. ولهذا نشأ مبدأ في نظرية المحاكاة بالمعنى الذي يحملها على التقليد للمؤلفين ، وهو ما نجده لدى جماعة الثريا الأدبية بقيادة الشاعر رونسار في فرنسا في عصر النهضة من اشتراط ألا يحاكي الأديب الكُتَّاب من لغته ، وأن يحاكي ما يتفق وعصره ، كما كتب الأقدمون لعصرهم. وهذه دلالة تأكيد للذات ولحضورها ، فالمحاكاة لما هو في اللغة نفسها تفضي إلى الجمود والتكرار ، والمحاكاة لما لا يتفق مع العصر أو ما جاوزه العصر هو ارتداد بالذات إلى الخلف أو هو تغريب لها وتغاض عن حركة الزمن ، وخصوصاً أن لكل عصر - كما ذهب رينيه ويليك وأوستن وارين - أنماطه البلاغية المختلفة التي تعكس نظرته الشاملة للحياة. ولا بد أن نلتفت هنا إلى أنه لم يصنع لنظرية المحاكاة لدى أرسطو قيمة أكثر من الذاتية التي انطوت عليها في نَفْي أرسطو المحاكاة الآلية للطبيعة ، ونصِّه على الدور الإبداعي والمهارة الفنية للشاعر. فالمحاكاة الفنية لديه لا تطابق الأصل تمام المطابقة ، وأنَّى لها أن تفعل ذلك! والشاعر لا يروي ما وقع بل ما يجوز وقوعه وما هو ممكن ، والناس في المحاكاة يبدون خيراً مما هم عليه أو شراً مما هم عليه .. ومعنى ذلك أن الشاعر لا يحاكي أصلاً هو الطبيعة ولو تم ذلك - جدلاً - فإن الأصل يغني عن محاكاته ، وإنما يحاكي فكرة في الواقع يتمثلها خياله ويتصورها. وقد بدا هذا الجانب تحديداً من نظرية أرسطو موضع التأكيد والتوسيع منذ عصر النهضة. فالسير فيليب سدني (-1586م) في كتابه (دفاع عن الشعر) يقرر أن الشعر يخلق صورة مقابلة لصورة الطبيعة ، ويمتعنا ما فيها من الإتقان والكمال. ولدى فرنسيس بيكون (-1561م) تأكيد للذاتية في مبدأ الرغبة الذي يُنْتِج الشعرُ الأشياءَ عبره ، فالشعر -لديه - يُخْضِع مظاهر الأشياء لرغبات العقل. ويمتد هذا التصور إلى جوزف أديسون (-1719م) الذي قال: (إن الشاعر يستطيع أن يوجِد ما لم يوجد ، فكأنه يضيف إلى ما خلق الله في الطبيعة أنواعاً أخرى). ومضى إلى التعبير عما قاله أرسطو بصيغة أخرى في قوله: (يبدو أن الشاعر يصنع خيراً مما تصنع الطبيعة ، فهو يأخذ مشاهده منها ، ويسبغ على ما يأخذ لمسات حيوية ، فيشيع الحياة في كل ما يأخذ). وبالطبع فلم تكف الكلاسيكية الجديدة عن حبس النظرية الأدبية في القيود والقواعد الشكلية والموضوعية ، على نحو أفرغ النظرية من محتواها المعرفي والفلسفي. فالنظرية الأدبية تفسير ووصف ، في حين تغدو القواعد والمعايير تقنيناً. ومن المؤكد أن في كل فعل نظري تقعيداً وتقويماً ، لكن القواعد الكلاسيكية كما هو حال الوحدات الثلاث والفصول الخمسة في المسرحية وصفات البطل التراجيدي .. إلخ هي ممارسة استنتاجية أعقبت النظرية وتلتها فأصبحت قواعد معزولة عن الفعل النظري. ولا تختلف مناداة بن جونسون (-1637م) بأن تكون الملكة المبدعة خاضعة لسلطان الصناعة ، عن تحزُّب جون درايدن (-1700م) للقواعد أو إحالة الإكسندر بوب (-1744م) لمصادر القيم النقدية على مراجع ثلاثة: هي الطبيعة وآثار السلف والعقل ، بحسبانها في الدرجة نفسها من الصلة والاعتماد المتبادل ؛ لأن سلطان كل منها مثبت لسلطان الآخَرَين. والنتيجة لذلك هي تقارن التقليد بالتقعيد ، فالقواعد التي تشرط الإبداع وتسبقه تعني أن هناك نموذجاً مسبقاً ينبغي اقتفاؤه ، وهذا النموذج هنا هو النموذج الموصوف في نظرية المحاكاة عند أرسطو من الشعر التمثيلي اليوناني. ولهذا لم يكن مصادفة أن يغدو نتاج الكلاسيكية الجديدة في معظمه في باب الشعر التمثيلي ، وأن يكون أبرز أمثلتها أسماء راسين وكورني وموليير. لكن العبقرية المتفردة تجاوز ، دوماً ، القواعد ، فلم يكن شكسبير (-1616م) موضع اختلاف على عبقريته ، وقد نالت مسرحياته مساحة غالبة من القبول ، وعلى رغم ذلك فقد كان أشهر مثال على خرق القواعد الكلاسيكية ومجاوزتها. وقد يبدو إقرار بعض أبرز نقاد الكلاسيكية الجديدة ومنهم الإكسندر بوب بأن الخروج على القواعد يمكن أن يكون تفوقاً وإبداعاً ، مناقضاً لشرطية القواعد التي تعبِّر عن دلالة القوة فيها وإفضائها إلى القيمة الجديرة بالثناء ، وإلا فما الموجب لها؟! وهذا ملمح يتصل بالنظرية مفهوماً وقيمة ، فلا فكاك للنظرية - كما قرر رينيه ويليك - عن التقويم أي النقد وعن التاريخ للأدب ، وإذا لم يكن هناك حدود وقواعد تميز الأدب عن غيره ، وأنواع الأدب بعضها من بعض ، فكيف يمكن أن نصنع نظرية للأدب أو نمارس نقداً له أو نؤرخه؟! إن العبقرية لا تخرق القواعد المذهبية أو المدرسية والنوعية في الأدب بل إنها تخرق النظرية بوصفها كلاً تجريدياً ، ومن المؤكد أن أرسطو لم يخطر في حسبانه أن أحداً سيحاسب شكسبير باسمه ، وإلا لاستغنى عن كثير من الأوصاف النظرية التي تضمنها كتابه ، ومن يدري فقد يغدو شكسبير هو محور القيمة النظرية في كتابه. وعلى رغم ذلك فإن عبقرية شكسبير وخَرْقه القواعد لا يعني أنه منفرد عن غيره من الشعراء والأدباء في كل شيء وبلا روابط تصله بهم ، بل هناك منطقة اتصال وتشابه واسعة وهي منطقة التلاقي التي تقوم عليها النظرية ، وفي جانبها منطقة الاختلاف على مستوى فردية الشاعر ونصه ونوعه الأدبي وعلى مستوى عصره .. إلخ ، وهنا مقام الفردية والجزئية والاختلاف الذي يتحرك به الأدب في الزمن ويقتضي به العمل الواحد أو الشاعر الواحد ما تستحقه فرديته من اهتمام.