أظهرت دراسة أميركية حديثة، أجراها باحثون في علم النفس والسلوكيات على الإنترنت، وشملت 308 مستخدمين لموقع «فايسبوك» قدرة الموقع على إطلاق مشاعر الغيرة الرومانسية. وفيما يناهز المعدل الوسطي ل «الأصدقاء» على كل صفحة من «فايسبوك» الثلاثمئة، تفيد نسبة 75 في المئة من الأشخاص المشمولين بالعيّنة أنهم ينحون إلى طلب «الصداقة الفايسبوكية» ممن جمعتهم بهم في الماضي علاقات غرامية أو زوجية. وتؤكد نسبة 80 في المئة أن الشريك(ة) الحالي(ة) أضاف(ت) حبيباً قديماً أو زوجاً سابقاً إلى صفحته(ها) الخاصة. كما يقرّ معظم المشمولين بالعينة أن لهم «أصدقاء فايسبوك» لا يعرف بهم الشريك الحالي. ولعله ليس مفاجئاً توصل الباحثين إلى أن الأشخاص المعرضين للشعور بالغيرة (أي مالكي ما يسميه علماء النفس «سمة الغيرة») هم أكثر عرضة ل «غيرة الفايسبوك» أيضاً. صار هناك، إذاً، مُسمّى «غيرة الفايسبوك». الغيرة معطى «موضوعي» في المبدأ، وشعور «حقيقي» مرتبط بشحنات كهربائية وهورمونية يتعرض لها الجسم الغيور، تولّد لديه متغيرات فيزيولوجية ملموسة، إلى جانب الأثر النفسي والمعنوي. الشجار الهاتفي بين كريم وخطيبته وقع بين شخصين من لحم ودم، بين صوتين تلتقطهما الأذن المجردة. كل ذلك أصيل ومادي، بدرجات متفاوتة. لكن الحدث وقع على «فايسبوك» أولاً. من الصفر بدأ، هناك. أو الأصح، من أصفار وأرقام هي الهوية الإلكترونية لصورة خطيبة كريم السابقة. هذا هو الواقع حاضراً. فلنسمّه «الواقع الفائق». تنبّأ به الأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس من حيث لا يدري. وتلقفه جان بودريار، بعد ردح من الزمن، في كتابه الشهير عن المحاكاة فاستهله بقصة بورخيس «عن مطابقة العِلْم». في القصة أن حاكماً أمر مجموعة من المسّاحين برسم خريطة لامبراطوريته. أرادها دقيقة وتفصيلية إلى أبعد حدّ متخيل. وكان له ذلك، لدرجة أن الخريطة جاءت مطابقة للأصل في الحجم والتفاصيل، حتى راح الناس يعيشون بالخريطة وعليها، كما يعيشون في مدنهم. ويوم انهارت الامبراطورية، كان انهيارها بمثابة شهادة على انهيار الخريطة. ابتلعت رمال الصحراء النتف الأخيرة من إنجاز المسّاحين. انتهى «التوأم المتخيل» (الخريطة) مع نهاية الأصل، بعدما امّحت نهائياً الفوارق بين الأصل والصورة. ففي الاثنتين، الامبراطورية والخريطة، عاش الناس وماتوا. من خريطة بورخيس الفانية، يبعث بودريار نظريته حول هيمنة المحاكاة على حياتنا، إذ تنتج نماذج من الواقعي والحقيقي، إنما من دون أصل أو حقيقة – جذر. المحاكاة التي تولّف الواقع الفائق. فلا أرض قبل الخريطة، ولا بعدها. بل إن الخريطة توجد، في عُرف بودريار، قبل الامبراطورية. الأرض هي التي تتمزق وتندثر، رويداً رويداً، على امتداد الخريطة. الواقع الفائق محمي من تأثير الخيال، ومن الاعتراف بأنه خيال. حتى تمايزات «نموذج» عن آخر، يركّبها ويظهرها تقليد تلو التقليد. ليست المحاكاة ادعاء ما هو غير موجود، ولا هي تُزيّف أيضاً. ليس تماماً. فمن يدّعي المرض يلزم سريره ليجعل مرضه قابلاً للتصديق. أما مَن يحاكي مرضه، فإن جسده ينتج أعراضاً.