يخطئ من يظن أن الأوضاع في العالم العربي رست على حال بعد تسونامي الثورات والهزات والزلازل. وموهوم من يعتقد أن الاستقرار قد تحقق وأن كل الأمور تصب في خانة «السمن والعسل» وأن الحياة العامة ستنعم بالأمن والأمان، وأن أبواب السعادة ستفتح على مصاريعها لتنعم بالرغد والعيش الكريم وتفتح معها أبواب العمل والإنتاج والرخاء لتقضي على البطالة والفقر والأمية والجهل. فما حدث حتى الآن ما هو إلا بداية طريق وشعاع أمل وخطوة أولى في طريق الألف ميل الموصل إلى تحقيق الأهداف وتحويل الأحلام إلى حقائق ودفن صفحات الماضي البغيض الموصوم بالظلم والاضطهاد وانتهاك حقوق الإنسان والديكتاتورية والفساد من أجل فتح صفحات جديدة بيضاء ناصعة تكتب الشعوب عليها تطلعاتها وآمالها وتصحح تاريخها وتصوب مسارها. والأمل بأن يتجه هذا المسار نحو الأفضل والأرقى والأضمن لمستقبل الأجيال الصاعدة التي كادت أجيالنا أن تفقدها ماضيها وحاضرها ومستقبلها وتدفعها إلى اليأس والقنوط بعد سنوات الضياع وخيبات الأمل بداية من نقطة الصفر بعد أن عملت معاول الهدم والتشويه والفساد عملها وأكملت دورها التخريبي ثم جاءت الثورات لتضع حداً لها لكنها أضاعت الكثير خلال المرحلة الانتقالية. وهذا أمر طبيعي بسبب توقف عجلة الإنتاج وهروب الرساميل وضرب موسم السياحة وتعثر مخططات الاستثمار وعدم وضوح الرؤيا بالنسبة إلى المستقبل لا سيما في الشأن الاقتصادي وشكل السياسة التي ستتبع في المرحلة المقبلة في ظل استمرار الشكوك بتوفير ضمانات الاستقرار والاستمرارية ووقف فوضى الأمن والاعتصامات المتواصلة وعدم بناء جدار الثقة من جديد بعد هدم جدار الأنظمة البائدة. فما جرى شكل نهاية عصر وبداية عصر جديد لم تكتمل ملامحه بعد ولا اتضحت معالم خريطة طريقه وهذا أمر طبيعي عندما ننظر إلى حجم الزلازل التي حدثت دفعة واحدة خلال فترة زمنية قصيرة لا تتعدى الأشهر القليلة خصوصاً أن العصر المنصرم استحق عن جدارة لقب عصر الهزائم والانتكاسات والاضطرابات والانقلابات وسرقة إنجازات الشعوب ومعها أحلامهم وتطلعاتهم وابتسامات أطفالهم ولقمة عيشهم وطموحاتهم بالعيش حياة كريمة مثل كل شعوب العالم. من هنا جاءت هبّة الشعوب بعد طول انتظار، وخالفت تحركاتها كل التوقعات والتكهنات التي كانت تروج لمقولة الاستقرار الذي ثبت أنه كان وهمياً ومغطى بلفافة «سوليفان» شفافة تخفي وراءها ما تخفي، أو انه كسجادة عجمية فاخرة تغطي الدار وتخبئ تحتها شتى أنواع الأوساخ والقاذورات وغبار المشاكل والهموم والأزمات ومعها تداعيات الأخطار الفادحة والخطايا القاتلة. فقد نفد صبر الشعوب وكان ما كان من عواصف و «تسونامي» قلبت الأوضاع كلها رأساً على عقب ونسفت المسلمات وتحدت المحرمات وجابهت بصدور عارية قوة السلطة لتثبت مرة أخرى أن القوة للحق وليس الحق للقوة كما كان يروج المروجون. ولكن هل هذا يعني أن الطريق قد أصبح ممهداً للاستقرار والبدء ببناء مرحلة جديدة ودولة عصرية تحقق الآمال والتطلعات؟ وهل حانت ساعة الحقيقة من أجل تحويل الشعارات إلى مبادئ وأحلام المواطنين إلى حقائق وطموحات الثورات إلى سياسة عامة وخريطة طريق للمستقبل؟ نخدع الشعوب إذا ادعينا أن الفرج قريب، ونكذب على المواطن إذا لم نصارحه القول وندعوه إلى الحذر والصبر لأن المشوار طويل والطريق محفوف بالأخطار ومزروع بالألغام والأطماع الداخلية والخارجية. والأمل موجود ما دام الشعب قد حدد مطالبه ولقن الحكام دروساً لن تنسى، ولا يجوز لنا أن ندفعه إلى الإحباط واليأس وإضاعة ما حققه من إنجازات تفوق الخيال إلا أن الواجب يدفعنا إلى المصارحة والمكاشفة ووضع النقاط على الحروف حتى لا نخدع أنفسنا وندعي ما نحن لسنا فيه بعد بسبب تعقيدات الأوضاع وتراكمات السنين العجاف. فالعواصف قادمة من كل اتجاه، وعلى الشعوب التي ملكت زمام أمورها بأيديها، أو أن هذا ما تعتقده، أن لا تستكين لما تم تحقيقه ولا تكتفي بخطوات هدم الأنظمة وسجن المرتكبين بل عليها أن تتجه إلى البناء والعمل والإنتاج وأن تتحلى بالصبر والإيمان وتراقب مجريات الأمور وتعمل بجد وتجتهد وتقدم التضحيات تلو التضحيات وتنبذ الفرقة والتشرذم والتباينات العرقية والطائفية والمذهبية والطبقية وتبني مداميك وحدة وطنية ثابتة وحقيقية لا مجرد شعار وهمي وأشعار تلقى في المناسبات. فالشعوب تكاد تخسر كل شيء وهي لا تملك الآن سوى العرق والدم والدموع والإرادة الصلبة والعزيمة الصابرة الصامدة حتى لا يضيع كل ما تحقق هباء منثورا، والتحديات المستقبلية ضخمة وخطيرة وأكيدة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والمعيشية. بالنسبة إلى السياسة هناك مخاوف كثيرة من نجاح فئات الانتهازيين بركوب الموجة والسيطرة على السلطة بأساليب مخادعة توهم الشعوب بأنها تحمل بيدها الترياق وتعد بحل لكل مشكلة وتدعي أنها وحدها ستنقذ البلاد وتحمي العباد. كما تقوم مخاوف أخرى من هيمنة قوى معينة على الأوضاع وممارسة ديكتاتورية جديدة تعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وهي قوى متطرفة أو استغلالية تملك القدرة والإمكانات والأموال لتنفيذ مآربها. والحل يكمن ببساطة في قدرة المواطن العادي على تحديد معالم طريقه ومنع أي انحراف نحو الأسوأ. والعلاج الوحيد متوافر في صيدلية الحرية ودواء الديموقراطية بكل ما تعنيه من معان وأبعاد وإجراءات وشفافية واحترام لأصولها وتبعاتها. أي بكلمات مختصرة وقصيرة: انتخابات حرة ونزيهة، وتداول للسلطة وحكومة تحكم ومعارضة تراقب وتحاسب وناخب يدلي بصوته بكل حرية واقتدار لانتخاب ممثليه ومحاسبتهم واختيار سياسة الحكومة التي تمثله. وكل هذا لا يكتمل إلا بسيادة القانون وتوافر عوامل المساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وبناء مؤسسات الدولة ومنها مؤسسة الجيش والأمن التي تدافع عن الوطن وتذود عن ترابه وتحمي المواطن وحقوقه وتؤمن الأمن والأمان ولا تكون سيفاً مصلتاً على رقابه وقذيفة أو رصاصة موجهة إلى صدره. ففي السياسة لا بد من مجابهة العواصف المرتقبة في ظل ما يبدو أنه غياب للحلول الناجعة وتقصير في تحديد معالم الطريق، أما في الاقتصاد فالعواصف ستكون أعتى وأشد قسوة وتأثيراًَ مما سبقها لأن العلة تكمن في التخريب الاقتصادي الذي تجاوز كل الحدود خلال العقود المنصرمة، من فساد وسرقات وهدر وغياب التخطيط السليم وعدم التركيز على وسائل الإنتاج وأهداف تحقيق الاكتفاء الذاتي وتوجيه الثروات نحو السبل الكفيلة بمحاربة الفقر وتأمين فرص العمل والتخفيف من أعباء البطالة التي تضرب غالبية شبابنا في مجتمعات يشكلون فيها الغالبية. ومن عاصفة الاقتصاد نكمل مع عواصف الحياة المعيشية للمواطن وأعباء الحياة من غلاء وغياب التأمينات والمشاكل الاجتماعية المتفاقمة والتي ستزيد ظلماً بغالبية الشعوب خلال المرحلة الانتقالية التي ينتظر أن تمتد لعقد من الزمن على أقل تقدير، فالتجارب الراهنة توحي بأن حالة الفوضى ستستمر وان التوازن لن يعود إلى المجتمع قبل تحديد معالم الطريق ومعرفة شكل الأنظمة الجديدة ومسيرة الديموقراطية والانتخابات المرتقبة خلال أشهر قليلة. هذه المصارحة لا بد منها لتبيان الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وهذه من أساسيات مسؤولية الإعلام بدلاً من التلطي وراء الشعارات والمضي في التكاذب والنفاق والضحك على ذقون الناس والسير في ركاب الشعارات وحامليها بدلاً من التحذير من العواصف الحاضرة في ظل الحلول الغائبة. فالعرب لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه إلا بسبب المبالغة في الكذب وإبراز الإيجابيات ونفي وجود سلبيات. وبمعنى أدق: سياسة الإنكار التي ما زالت قائمة والادعاء بأن كل شيء «تمام يا افندم» وأن من ينتقد هو مخرب ومندس وعميل! ولكن بعد كل ما جرى لم يعد هناك مجال للمشاريع الوهمية والواجهات البراقة التي تخفي وراءها ما تخفي لينطبق عليها قول المثل الشعبي: «من برا رخام، ومن جوا سخام». * كاتب عربي