لم تنطلق الانتفاضات الخارجية في بعض الأقطار العربية من مخطط خارجي يرمي إلى إسقاط الأنظمة، على غرار ما عرفه العالم في أكثر من زمن (إسقاط محمد مصدق في إيران في الخمسينات، إسقاط صدام حسين في العراق، إسقاط حكم سلفادو الليندي في تشيلي في السبعينات...)، بل قامت الانتفاضات انطلاقاً من انفجار احتقان داخلي ناجم عن جملة عوامل سياسية واجتماعية وثقافية تتصل بالاستبداد المرخي بثقله على هذه المجتمعات وما تمارسه الأجهزة الأمنية من قهر وظلم، وبالتفاوت الاجتماعي وسيادة الفقر والبطالة والتهميش، وسوء استخدام الثروة... وهي عوامل كانت تتفاعل وتتراكم على امتداد عقود. يضاف إلى ذلك تكوّن نخب شبابية استطاعت التفاعل مع مكونات الثورة التكنولوجية، وهي فئة تعاني من القهر والتهميش والبطالة، أمكنها توظيف التقنية في إطلاق الحراك ونشره وإيصال المعلومات والصور والتعبئة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ما يحسم في مركزية العوامل الداخلية في إطلاق الانتفاضات، يؤكد ذلك طبيعة الشعارات السياسية التي رفعتها القوى حول الحرية والكرامة ورفض القهر والمطالبة بالديموقراطية والدولة المدنية. منذ اليوم الأول كانت المفارقة واضحة حول حجم الحراك المنطلق وضخامته، وبين القوى التغييرية الحاملة له، خصوصاً من الحركات الشبابية التي حملت راية الانطلاق، وهي قوى تفتقر إلى التنظيم السياسي والخبرة في إدارة الصراعات السياسة والاجتماعية وتوظيف الحراك الشعبي على الصعيد السياسي. في المقابل، لم يكن النظام مستعداً للتسليم بسقوط منظومته، بل وضع كل قواه في السعي لإطفاء نار الحراك الشعبي، بل وهدد بتسعير التناقضات والعصبيات التي يتكون منها المجتمع، وتحويل الحراك حرباً أهلية وفق منطق الحاكم العربي: «إما أنا أو الدمار الشامل». هذه المفارقة والمراوحة في بعض الانتفاضات جعلت من العامل الخارجي فاعلاً وحاسماً في حسم الصراع في بعضها. سيظل منطق المؤامرة الخارجية في تحريك الشعوب العربية مرفوضاً، بل هو يشكل في حقيقته إهانة واحتقاراً للشعوب العربية وتعبيراً عن عجزها المطلق في رفض الاستبداد، والتدقيق في العلاقة بين الخارج الدولي والحاكم العربي يؤكد علاقة وثيقة كانت تربط الخارج بهذه الأنظمة وحكامها. لم يكن أحد يرغب في الطلب سريعاً إلى حسني مبارك وزين العابدين بن علي في الرحيل، فهما ولدان مدللان للغرب. لكن الغرب يتصرف وفق مصالحه أولاً وأساساً، ولا يقع في برنامجه حسابات العلاقات الشخصية أو الصداقة مع هذا الحاكم أو ذاك. في حالة مصر وتونس، عندما أدرك هذا الغرب أن حجم الحراك المندلع يفيض عن القدرة على حماية هذين الزعيمين، وأن صلاحية كل منهما قد انتهت، فحسم الغرب خيار الذهاب انطلاقاً من العلاقة بالقوى العسكرية، وسعياً لموقع جديد في النظام المتكوّن في كلا البلدين. في ليبيا، لم يفكر الغرب يوماً في إنهاء حكم القذافي، بل كنا نشهد احتضاناً لهذا المستبد، وتملقاً لشخصه يصل إلى حدود الابتذال من بعض رؤساء الغرب، ووضع كل قضايا الحقوق الإنسانية جانباً، وذلك للحصول على مواقع متميزة في الاستثمارات الغربية وشراء ترسانات أسلحة. تدخّل الغرب عندما اندلعت الانتفاضة، وبعد الرد الوحشي من القذافي على قمع المتظاهرين، وبعد أن وجد الغرب أن مصالحه باتت تقضي بالتضحية بالقذافي، فتدخّل عسكرياً وحسم الصراع هناك. أما في اليمن وسورية، فيخطئ من يعتقد أن الغرب كان يرغب في إزالة النظامين، بل على العكس، ينظر إلى الحاكمين في وصفهما ضمانات فعلية لمصالحه الدولية والإقليمية في كل من المشرق العربي وشبه الجزيرة العربية، الدليل على ذلك أن شعار رحيل كل من الحاكمين لم ينطلق إلا بعد مرور مالا يقل عن سبعة أشهر على انطلاقة الانتفاضة، وبعد أن شعر الغرب أن تكلفة الاستمرار في دعم كلا الحاكمين باتت تضر بمصالحه في المنطقة أكثر مما تفيده. في أي حال لا تزال إسرائيل تطلق الصوت عن أخطار سقوط النظام السوري على أمنها وموقعها. في مقابل كل ذلك، لا يمكن إنكار أن الحسم النهائي للصراع في كل قطر من أقطار الانتفاضة بات يستند إلى تدخل العامل الخارجي الدولي أو الإقليمي، وهو أمر قد يكون لا مفر منه راهناً، في ظل عدم التكافؤ في ميزان القوى، وإصرار النظام على استخدام القوة المفرطة والوحشية في قمع الانتفاضة. إلا أن هذا الوضع يعيد طرح موقع قوى التغيير الداخلي وعجزها عن حسم الصراع مع النظام القائم. وهي ثغرة كبيرة جداً، وتمس بالمآل الأخير لهذه الانتفاضات، والموقع الذي يطلبه الخارج ثمناً لتدخله في حسم الصراع، والمصالح التي يجب التمتع بها، خصوصاً أن هذا الخارج ليس مؤسسة اجتماعية تقدم الخدمات مجاناً. إن الراهن والمقبل على المجتمعات العربية يطرح تحديات على الداخل وقوى التغيير فيه وتنظيم الحياة السياسية، والاستعداد لخوض الصراع الداخلي على بناء الدولة وطبيعة الحكم، واستنفار القوى الشعبية وتأطيرها في أحزاب سياسية. فالقوى التي تجد نفسها الآن خارج السلطة لن تتوقف عن تنظيم ثورة مضادة، والغرب لن يتورع عن إعادة التحالف معها إذا ما وجد أن ميزان القوى عاد يتحول لمصلحتها. إن معركة سيادة واستقلال كل قطر والحفاظ على مكتسبات انتفاضته تظل معركة داخلية بامتياز، ومرهونة بالقوى الشعبية في كل بلد. * كاتب لبناني