اعطى سقوط نظام القذافي في ليبيا جرعة ايجابية للانتفاضات الجارية في بعض الاقطار العربية، وعلى رغم الدور الاساسي الذي لعبه التدويل عبر تدخل «حلف الناتو» في العمليات العسكرية، الا ان الحراك الشعبي المتواصل منذ شهر شباط (فبراير) الماضي وما تركه من انعكاسات على تفكك النظام، يظل العنصر المقرر في مسار الانتفاضة الليبية. لكن سقوط النظام يؤشر الى المرحلة الجديدة التي دخلتها ليبيا لجهة تعيين ملامح المرحلة المقبلة من تشكل النظام السياسي وتعيين برنامج البناء المقبل والخيارات المطلوبة في هذه المرحلة الانتقالية من مسار الانتفاضة. بذلك تنضم ليبيا الى مصر واليمن وتونس وسورية في ضرورة النقاش في طبيعة المرحلة المقبلة، بصرف النظر عن ان بعض الانتفاضات لا تزال في مرحلة الصراع الدموي مع النظام القائم. على رغم كل ما تحقق من ايجابيات في مسار الانتفاضات خصوصاً لجهة اسقاط الرموز الاساسية واخضاعها الى المحاكمة المدنية في مصر وتونس، وعلى رغم اصرار المعارضات في كل من سورية واليمن على دفع الأكلاف الغالية من الشهداء لانجاز اسقاط النظام، الا ان جميع القوى تقف امام تحدي رسم مستقبل كل بلد وتعيين التوجهات المركزية الواجب تلمسها، وعدم انتظار انتهاء خطوات ضرورية في هذه المرحلة الانتقالية. ينجم هذا التطلب من كون الانتفاضات تمر في مرحلة حساسة تواجه خلالها مخاطر الارتداد عن الانجازات المتحققة، بل ونجاح «الثورة المضادة» في اجهاض المسار التحرري الذي دفعت الشعوب ثمنه غالياً. فالانتفاضات، باستثناء سورية، تعيش حالة مزدوجة من «ازدواج السلطة» الى حد بعيد، ناجم عن كون ما حصل في البلدان الاربعة يظل مزيجاً من قوى شعبية منتفضة ومن اقسام اساسية من مؤسسات النظام القائم. في مصر وتونس، لم يكن للحراك الشعبي ان ينتهي الى المحطة التي وصل اليها من دون تدخل المؤسسة العسكرية الحامية الاساسية للنظام. وفي ليبيا واليمن، اختلط الحراك الشعبي بانقسامات ضمن النظام بحيث تقدمت القوى التي كانت تمسك بالحكم لتقف على رأس الحراك الشعبي، بل وتتولى قيادته. وحدها الانتفاضة الشعبية في سورية لم تشهد بعد انقساماً في مؤسسات النظام، سواء منها العسكرية او المدنية. قد يكون هذا المسار ممراً اجبارياً دخلته الانتفاضات بحكم الضرورة الناجمة عن طبيعة القوى السياسية وحجم الدمار الذي منيت به المعارضات على يد انظمة الاستبداد. لكن المشهد الذي تقدمه هذه الانتفاضات لا يوحي بالارتياح الى علاقات القوى التي نزلت الى الشارع وفرضت التغيير من جهة، وبين قوى النظام السابق من جهة اخرى. باتت هذه المرحلة الانتقالية تطرح على قوى الحراك الشعبي، التي قامت على اكتافها عملية التغيير في حدوده الراهنة، مسألتين ملحتين لكي لا تقع الانتفاضات في براثن القوى المضادة. الاولى، تتصل بضرورة تحديد الخيارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والوطنية، بما هي برنامج الحكم المقبل، بكل ما يعنيه من تعيين القوى الاجتماعية والسياسية التي ترى مصالحها في الحكم الجديد، وهو امر قد يتسبب في فرز القوى السياسية ويزيل الطابع الملتبس القائم راهناً. لا يمكن المراوحة في مصر او تونس عند محاكمة الرئيس واتباعه من رؤوس النظام، على اهمية الخطوة هذه، بل يجب الانتقال الى تعيين حاجات الفئات الشعبية وتعيين طبيعة الاصلاحات السياسية والاقتصادية الواجب ادخالها بما يلبي طموحات اوسع الفئات الشعبية. الامر نفسه مطروح على سائر الانتفاضات، وان لم يكن بالحدة نفسها التي تواجه مصر وتونس. المسألة الثانية، تتعلق بتنظيم القوى الشعبية التي قادت الانتفاضات، وايجاد الاطر الحزبية اللازمة لتجميع القوى، بما يضمن استعدادها للنزول الى الشارع في كل مرة يستوجب مسلك قوى النظام ان يجري التصدي لممارساتها. على رغم مرور اشهر عدة على هذه الانتفاضات، الا ان التأطير التنظيمي لا يزال ضعيفاً قياساً على حجم المهمات المترتبة على قوى الانتفاضات. قد تكون لهذه المراوحة اسبابها الموضوعية الناجمة عن ان قوى الانتفاضات لم تكن هي نفسها الاحزاب السياسية التقليدية، بل كانت طلائعها قوى شبابية اطلقت حراكاً كانت عوامله قد نضجت على الصعيد الشعبي، وامكن لهذه القوى توظيف التقنية الحديثة، من ثورة الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي والفضائيات، في اطلاق حراك شعبي واسع استطاع اسقاط رموز اساسية في بعض البدان العربية. وضع اسقاط رأس النظام هذه القوى امام تحدي المرحلة الجديدة التي يتطلب استكمالها تكوّن تنظيمات سياسية تستطيع تأطير الشارع وتبني القوى اللازمة للمرحلة الجديدة من مسار الانتفاضة. صحيح انه لا يمكن تكوين احزاب سياسية بين ليلة وضحاها، لكنّ الحراك الشعبي و «اللحظات الثورية» تشكل عنصراً مسرّعاً لتكوين الاحزاب وصقل وعيها السياسي، بما لا يقاس عن مراحل الهدوء والسكينة. في هذا الصدد تجب قراءة الخطوة الاخيرة التي لجأت اليها قوى من المعارضة السورية في تشكيل مجلس انتقالي يقود الانتفاضة الراهنة ويؤسس للمستقبل بعد سقوط النظام. اثيرت اعتراضات على تشكيل المجلس من بعض القوى في الداخل والخارج. ليس الاعتراض هذا يقع خارج مألوف مسار الانتفاضة. فالانتفاضة السورية، اكثر من اي انتفاضات، عانت من ضعف القوى التنظيمية في مراحلها الاولى، بالنظر الى الابادة السياسية التي انتهجها النظام السوري ضد قوى الاعتراض عليه. لذا تبدو الخطوة في تشكيل مجلس انتقالي خطوة ايجابية ضرورية وان تكن غير كافية. ان يجري النقاش على ضرورة التنظيم وتعيين قيادات المرحلة المقبلة يصب ايجاباً في مسار الحراك، مما يفرض على قوى المعارضة السورية ان تنتقل فعلاً الى تشكيل قواها في اطر استعداداً للمرحلة المقبلة، وهو ما يوجب النقاش الصريح والديموقراطي المستند الى تعيين الخيارات السياسية للنظام المقبل بشكل اساسي. كلما هدأت لغة السلاح في بلد عربي، صعدت الى السطح قضايا البناء المقبل ورميت في وجه الانتفاضات القضايا الملحة التي تحتاجها شعوب هذه الاقطار لتحسين اوضاعها السياسية والاجتماعية. لن يكون الطريق المقبل مفروشاً بالورود، بل قد تكون المهمات اصعب واقسى بكثير من السهولة التي حصلت في اسقاط رؤوس النظام. يبقى ان المهم هو الدخول في الموضوع عبر تحديد البرنامج والخيارات وبناء القوى اللازمة لانجازها. * كاتب لبناني