تُفاجأ عندما تصل إلى مطار كييف، عاصمة أوكرانيا، الدولة الثانية من حيث الحجم في أوروبا الشرقية. للوهلة الأولى تخال نفسك في مطار بلد نامٍ، كأن لا تكنولوجيا مرّت من هنا. أقلام وأوراق هي وسائل المدققين ورجال الأمن، والسلحفاة مثالهم الأعلى في طريقة العمل، ناهيك بالتفتيش اليدوي للحقائب والمسافرين. أما الإشارة، فهي اللغة المعتمدة هنا، وإلا فعليك أن تأخذ حذرك مسبقاً وتتعلم إما الأوكرانية أو الروسية لتتواصل مع الناس والموظفين ورجال الأمن ذوي الوجوه الكالحة، الذين عندما يُحدّقون إلى وجهك أكثر من خمس مرات، تخال أنهم سيعتقلونك... أيعقل أن يكون هذا المكان الضيّق مطار بلاد الثورة البرتقالية التي شغلت العالم في 2004؟ البلاد الملقبة ب «سلّة خبز أوروبا» نظراً إلى مساحاتها الزراعية الشاسعة وإنتاجها الغزير من القمح؟ كييف أقدم مدن أوروبا الشرقية، ومركز العالم المسيحي الأرثوذوكسي. معروفة بأنها عاصمة صناعية علمية، وموطن لكثير من الصناعات التكنولوجية والصواريخ والمؤسسات التعليمية، إضافة الى تميزها كسوق نامية لتقنية المعلومات في وسط أوروبا وشرقها... تُخمّن أن خطأً ما حصل، هل هبطنا في مطار مدينة صغيرة ليست ذات أهمية اقتصادية أو سياسية تذكر؟ لا، بطاقة السفر تؤكد أنه مطار كييف مئة في المئة. خضرة وصدمة في السيارة، يبدو ممكناً تنفّس الصعداء مع لهفة لرؤية خضرة البلاد السوفياتية السابقة التي قرأنا عن حدائقها وأشجارها ومبانيها الأثرية، لكن المباني الضخمة المتشابهة المتراصّة، بلا لون ولا شكل على جانبي الطريق كالحراس، صدمة ثانية. آثار نظام الاتحاد السوفياتي التي تذكّر ببعض أحياء مدن ألمانياالشرقية أو غيرها من دول «المعسكر». ولا يساعدك الجو الضبابي الملوّث كهيئة البلاد وتعقيداتها السياسية وتناقضاتها، في تنشّق رائحة نظيفة لتُدخل الأوكسيجين الى شرايينك وترتاح من تعب السفر. تشعر وأنت عالق في زحمة السير الخانقة التي لا تفارق غالبية طرق أوكرانيا، كونها لم تُحدَّث منذ العهد السوفياتي، بأن كييف ليست مدينة مرنة يمكن أن تسحر الوافد إليها من اللحظات الأولى. الأمر مختلف هنا. ويبدو أن موقع المطار وهيئته والمنطقة المحيطة به، كلها عوامل سببت جفاء الساعات الأولى. لكن ما أن تصل إلى بوابة المدينة القديمة، وتطل قباب كاتدرائيتي القديسة صوفيا والقديس ميخائيل التراثية المذهّبة، وتمثال الاستقلال، ودار الأوبرا، والأشجار الباسقة، حتى تستعيد الأوكسيجين الذي فقدته سابقاً. فجأة، تلفتك خيام منصوبة على جانب الطريق، وسط العاصمة، قرب المحكمة. في البدء، تخالها أكشاكاً لبيع التذكارات والصحف. لكن أعلام حزب الأمة الوطني، وصور رئيسة الوزراء السابقة يوليا تيموشينكو بضفيرتها الشقراء الملفوفة حول رأسها، تثير التساؤل. أحد الزملاء اللبنانيين يوضح الأمر ببساطة: «هل تتذكرون خيام أحزاب المعارضة اللبنانية في وسط بيروت العام 2007، والتي شلّت الوسط التجاري؟ هذه هي نفسها، لكن لأسباب أخرى!». هكذا تبدأ المقارنة بين أوكرانيا (603.550 كيلومتراً مربعاً) وبين لبنان (10452 كيلومتراً مربعاً)، والبداية قد تكون من طريق المطار، المبنيةِ عماراتُه ومحالُّه عشوائياً وخلافاً للقانون في بيروت، والتي لا تختلف كثيراً عن المنطقة المحيطة بالمطار في كييف. أنصار ذات الضفائر حين كانت خيام «معارضة الثامن من آذار (مارس)» تعطِّل الوسط التجاري لبيروت في 2007، متّهمة رئيس الحكومة فؤاد السنيورة آنذاك بالاستئثار بالسلطة، كانت تيموشينكو، التي قادت الثورة البرتقالية السلمية، تخوض معركة انتخابية مصيرية في بلادها حيث حققت فوزاً ساحقاً. لكن بعد تولّي فيكتور يانوكوفيتش رئاسة الجمهورية الأوكرانية في 2010، «قرر خصمها الانتقام منها بسجنها»، كما يقول أحد المعتصمين من أنصارها. وقرر مؤيّدو تيموشينكو الاعتصام المفتوح في خيام بلاستيكية، قرب المحكمة التي حكمت بسَجن السيدة الفولاذية سبع سنوات بجرم إساءة استخدام وظيفتها كرئيسة للحكومة لإبرام عقود غاز مع روسيا، حتى الإفراج عن زعيمتهم. ويقول أليكسي كاراغولنيي، أحد المتعاطفين مع تيموشينكو: «سنبقى هنا إلى أن يُفرجَ عن تيموشينكو أو نُطرَد من هذا المكان بالقوة». أوجه الشبه بين كييف وبيروت لا تنتهي، فلسان الأوكراني كلسان اللبناني، لا يملّ الشكوى من الفساد السياسي والاقتصادي وغلاء المعيشة والبطالة وغياب الرعاية الصحية والبناء العشوائي والهجرة واختناق العاصمة بالنازحين، ناهيك بأزمة زحمة السير اليومية التي تفوق في كييف البالغة مساحتها 839.9 كيلومتر مربع، ثلاثةَ أضعاف زحمة السير في بيروت، إضافة الى أزمة مواقف السيارات! وقد تصاب بصدمة حين تعرف أن الحدّ الأدنى للدخل الفردي الشهري في كييف لا يتخطى 180 دولاراً، في حين يحتاج المواطن العادي إلى حوالى ألف دولار ليغطي حاجاته الأساسية. نسأل طبيبة تتقاضى -بحسب القانون- 200 دولار وتقود سيارة فخمة من طراز حديث: كيف تتدبرين أمورك؟ فتيجيب بكل بساطة: «ليس أمامنا سوى الرشوة والعمل خارج المستشفى». br / كل تلك القضايا عالقة في أوكرانيا كما هي في بيروت، منتظرة قراراً سياسياً وإستراتيجية وطنية تُنفّذ على الأرض، لتنتشل كلاًّ منهما من الغرق المستديم منذ عقود. ولا يسمع الأوكرانيون سوى «وعود عرقوبية» كالتي يسمعها المواطن اللبناني واضعاً يده على كفّه في انتظار غودو... نقرأ أن يانوكوفيتش «قدّر مستوى الفساد في المجتمع الأوكراني بنسبة خمسة في المئة (النسبة المعترف بها رسمياً)، ووافق على سياسة عامة لمكافحة الجريمة المنظمة من 2001 الى 2017، وعلى وضع استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد بين 2011 و2015». وتسمع في نشرات الأخبار أنه أكد أهمية العمل التنموي، خصوصاً البنية التحتية التي لم تطوّر منذ العهد السوفياتي، والرعاية الصحية المتدهورة والباهظة الكلفة. وتنشر وكالات الأنباء أن مجلس الوزراء الأوكراني طلب من البرلمان تشديد الرقابة على ممارسة الدعارة، وزيادة الغرامات التي تفرض على هذا «القطاع» بحوالى 10 إلى 50 ضعفاً من الحدّ الأدنى للدخل غير الخاضع للضريبة، في حين تزدهر هنا أقدم مهنة في التاريخ. هدية السلاح كل تلك القرارات والإستراتيجيات يقابلها تسريب أخبار عن جرائم قتل، وانتشار أسلحة، وموت مرضى في المستشفيات، فأوكرانيا تحتل المرتبة ال84 في التصنيف العالمي من حيث عدد مالكي الأسلحة، علماً أن ثلاثة ملايين قطعة من الأسلحة تعتبر غير شرعية، بحسب صحيفة «كومسومولسكايا برافدا» الأوكرانية، ونقلاً عن معطيات تتوافر لدى وكالة «Small Arms Survey» التي تتابع أوضاع الأسلحة الخفيفة في 178 بلداً. ونشرت الصحيفة، نقلاً عن غيورغي أوتشايكين، رئيس مجلس المراقبة في رابطة مالكي الأسلحة، قوله إن هناك حوالى مليوني قطعة سلاح بين أيدي الأوكرانيين، بينها سلاح يتداوله الناس كهدايا، وحتى بين نواب ووزراء ومحافظين ورؤساء بلديات، ويصعب تحديد كميته، علماً أن سعر صنع مسدس-هدية من طراز «تي تي»، لا يزيد على 30 دولاراً. ويعتبر هذا السلاح وسيلة فعّالة للدفاع عن النفس، ويمكن أي مواطن بالغ أن يشتري سلاحاً تزيد قوته عن قوة المسدس من دون أي صعوبة. وبحسب المعلومات المتوافرة لدى وكالة «Small Arms Survey»، فإن حصة كل مئة مواطن أوكراني تبلغ زهاء 6.6 قطعة من الأسلحة، ويتراوح العدد الإجمالي للأسلحة المتداولة بين مليونين و200 ألف قطعة، إلى ستة ملايين و300 ألف قطعة. وتوقف الباحثون عند كمية متوسطة، هي ثلاثة ملايين ومئة ألف قطعة. وتصنّف الوكالة كل تلك الأسلحة بأنها غير شرعية. أما يانوكوفيتش، فعلّق ردّاً على هذا التقرير الذي صدر أوائل الشهر الجاري، بأن «البلاد تشهد الآن شراء الأسلحة بغية تدبير اعتداءات على أجهزة السلطة». وجاء «الوعد الصادق» من وزير الداخلية الأوكراني أناتولي موغيليوف، بأن «الشرطة تحقق في وقائع الامتلاك غير الشرعي للأسلحة»... وجوه مُثقلة قد تتساءل، فيما تجول في شوارع كييف الطويلة وبين مطاعمها المبهرة بديكوراتها، عن وجوه أهلها العابسة في غالبيتها، وعن سبب تلك الملامح القاسية في مدينة تغصّ بالمظاهر البورجوازية والاستهلاكية الخادعة؟ بل قد يرتعب أحدهم عندما تستأذنه لالتقاط صورة تذكارية، أو يهرب مهرولاً عندما يشعر بأنك ستصوّره خلسة؟ وقد تستغرب لماذا لا يردّ الناس التحية والشكر؟ قد يأخذك تحليلك الى مئات الأسباب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية المتداخلة، ليس أوّلها الهموم اليومية التي تثقل كاهل المواطن الأوكراني، ولا آخرها الطقس البارد الأقرب إلى التجمّد. لكن عندما تقرأ تاريخ أوكرانيا، التي اشتُهرت بشجاعة شعبها وقوة جيشها الذي نُصب باسمه تمثال «أمّ الأمهات» في جنوب العاصمة وطوله مئة ومتران، وعندما تعرف عدد الحروب والمجاعات والإبادات والديكتاتوريات التي مرّت على البلاد، قد تتفهم وتفهم هذا الإرث الثقيل الذي يحمله الأوكرانيون من حيث لا يعلمون، فهم المعروفون بنزعتهم الوطنية القومية، التي حاول ستالين السيطرة عليها من خلال الإبادة الجماعية المتمثلة بالمجاعة المشهورة باسم «هولودومور»، والتي نفّذها نظامه بين 1932 و1933. لا يأمن الأوكرانيون لغريب أبداً، ولو كان سائحاً، فالخوف الذي ورثوه عن النظام الاستخباراتي السوفياتي، الذي كان يتلصص على أدق تفاصيل حياتهم اليومية، لا يزال يعشش في قلوبهم ويمنعهم من توزيع الابتسامات لأي كان أو التحدث مع أي كان، ويرسم علامات التوجس على وجوه غالبيتهم، خصوصاً من عايش من أهله ذاك النظام الذي أنتج أجيالاً لا تتحدث سوى الروسية أو بالكاد الأوكرانية. هذا الخوف لم يمُت بموت النظام السوفياتي، بل تبدّلت أشكاله لدى الجيل الجديد الذي يحاول فك رموز الانفتاح على العالم، من خلال التكنولوجيا وإتقان لغة شكسبير، وإن بصعوبة. هذا الجيل الذي يسخر منه كبار السن، ناعتينه ب «جيل تشيرنوبيل»، طبقاً لكارثة العام 1986 في مفاعل مدينة تشيرنوبيل النووي، والتي قضى فيها عدد كبير من الناس الذين توفّوا في العام نفسه أو أصيبوا بأمراض قاتلة خلال الأعوام التالية. وتسري أخبار بين أهالي كييف، المعروفين بقاماتهم الطويلة والممتلئة، أن «الآثار البيئية السلبية لكارثة تشيرنوبيل (في مقاطعة كييف أوبلاست في شمال أوكرانيا) أدت إلى نشوء جيل قصير القامة ضعيف البنية وقليل الخصب»، كما تقول الصديقة أوكسانا. وبالفعل، تعتبر معدلات الخصب في أوكرانيا من الأدنى في العالم، إذ بلغت 1.1 العام 2001. وتعزو الدراسات ذلك الى أسباب عدة، منها نمط الحياة العصرية. لكن الحكومة الأوكرانية تساعد في الحدّ من انخفاض عدد السكان، من خلال دفع مبالغ مالية لتشجيع كل عائلة على إنجاب طفل إلى أربعة أطفال. كثيرة وثقيلة هي مشاكل أوكرانيا، ويبدو أن غودو لن يأتي أبداً، كما حدث في مسرحية صموئيل بيكيت الشهيرة، لا في أوكرانيا ولا في لبنان... بلاد «وعود عرقوب».