جولة جديدة من حرب الغاز تفجرت هذا الشهر بين روسيا ، وأوكرانيا. حرب تحمل عناوين تجارية وإدارية، وتختزن بين ثناياها أزمة سياسية. وبالعودة للخلاف الروسي - الأوكراني حول الغاز، تشير وسائل الإعلام الروسية إلى أنه لا يُتوقع أن يتمكن البلدان من تسوية القضايا العالقة بينهما قبل العام 2012، عندما تشهد روسيا انتخابات رئاسية، ستوضح من هو رئيسها. وتشهد أوكرانيا انتخابات برلمانية، يتيح الفوز فيها للرئيس يانوكوفيتش أن يصبح الرجل الأقوى في البلاد لقد كان يُعتقد أن خروج فريق "الثورة البرتقالية" من قمة السلطة في كييف، في شباط/ فبراير من العام 2010، قد أسس لمرحلة مستقرة في العلاقات الأوكرانية - الروسية. بيد أن هذا لم يحدث عملياً، إذ إن القضايا العالقة بقيت على حالها. وبدا واضحاً أن أحداً في كييف لا يُمكنه الجزم بماهية العلاقات التي يُمكنه نسجها مع موسكو. وهذا، على الأقل، ما تشير إليه تجربة عشرين عاماً، هي عمر الدولة الأوكرانية الحالية، التي نالت استقلالها عن الاتحاد السوفياتي في العام 1991. في خلفيات الحدث، كانت روسيا وأوكرانيا قد وقعتا في 19 كانون الثاني/ يناير 2009 اتفاقيتين رئيسيتين: تتعلق الأولى ببيع الغاز الروسي لأوكرانيا، خلال الفترة بين 2009 و 2019. وتتعلق الأخرى بالرسم المستحق على الغاز الروسي المار عبر الأراضي الأوكرانية إلى أوروبا. وقد حصلت أوكرانيا على تخفيض نسبته 30% على السعر الذي تستورده من روسيا، شريطة أن لا يقل هذا السعر، في وقت من الأوقات، عن 100 دولار لكل ألف متر مكعب. هذا الاتفاق لم ينل حينها إجماعاً على مستوى الطيف السياسي في أوكرانيا. واليوم، اتسعت دائرة المعارضين له، لتشمل رئيسيْ الجمهورية والوزراء. وقسماً من المعارضة، التي كانت يومها في السلطة. وكانت رئيسة الوزراء السابقة، يوليا تيموشينكو، هي من وقّع هذا الإتفاق مع نظيرها الروسي، فلاديمير بوتين. وقد جرى اعتقال تيموشينكو، وإيداعها السجن، في حزيران/ يونيو الماضي، بتهمة تجاوز صلاحياتها، أثناء توقيعها العقد مع موسكو. كما اتهمت بتقديم مصالحها الشخصية على المصلحة العامة. وكانت النيابة العامة الأوكرانية قد فتحت، في العام 2010 ، ملفاً جنائياً ضد تيموشينكو، بعد انتخاب الرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش. واُتهمت تيموشينكو بداية بصرف أموال من خزينة الدولة، لأغراض لم تخصص لها. ثم وجهت إليها تهمة توقيع صفقة استيراد الغاز الروسي بطريقة تضر بمصالح أوكرانيا. وبذلت تيموشينكو في العام 2009 الكثير من الجهد، كي تظهر بمظهر المرشح الموالي لروسيا، في انتخابات الرئاسة الأوكرانية. وقد اعتبر خصومها هذا الأمر سبباً آخر للطعن في نزاهة صفقة الغاز. وأصبحت تيموشينكو عضواً في البرلمان الأوكراني لأول مرة في العام 1997. وفي عام 1999، عينت نائباً لرئيس الوزراء في حكومة فيكتور يوشينكو. وكان آخر منصب رسمي لها هو رئيسة وزراء أوكرانيا، وذلك في الفترة بين 2007 – 2009، حيث كان يوشينكو رئيساً للبلاد، وحليفاً سابقاً لها في "الثورة البرتقالية"، التي جرت في العام 2004، وجاءت بالاتجاه الموالي للغرب لسدة السلطة في كييف. وكانت يوليا تيموشينكو أحد قادة هذا الاتجاه، وأحد زعماء الثورة. في المقابل، يعتبر الرئيس الأوكراني الحالي فيكتور يانوكوفيتش، شخصية قريبة من روسيا، ومعارضا لانضمام أوكرانيا لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وقد وصل لسدة الرئاسة في انتخابات رئاسية جرت في شباط/ فبراير 2010، وتنافست معه فيها يوليا تيموشينكو، والرئيس السابق فيكتور يوشينكو، الذي خرج من الجولة الانتخابية الأولى، لتنحصر المنافسة بينه وبين تيموشينكو. وحينها، قال تعليق روسي، نشر في السابع والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2010، إن القيادة الروسية تستعد للتعامل مع فيكتور يانوكوفيتش، ورئيسة الوزراء يوليا تيموشينكو على حد سواء، لأنهما لا يشاركان الرئيس المنتهية ولايته معاداته لروسيا . وإن كان أفضل للطبقة السياسية الروسية - يضيف التعليق - أن يصبح رئيس حزب الأقاليم (فيكتور يانوكوفيتش) رئيساً جديداً لأوكرانيا، لأن حزبه شريك حزب السلطة في روسيا (حزب روسيا الموحدة)، بينما يقيم شركاء لحزب رئيسة الوزراء في أوروبا أو جورجيا. وفضلاً عن ذلك، يقف خلف فيكتور يانوكوفيتش رجال أعمال تربطهم علاقات وثيقة بالسوق الروسي. وعلى الرغم من ذلك، أبدى الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، في وقت لاحق، اعتراضه على اتفاق الغاز مع روسيا. ووفقاً لتقارير روسية، فقد تبين من اللقاء الذي عقد بين يانوكوفيتش ونظيره الروسي ديميتري ميدفيديف، في منتجع سوتشي في 11 آب/ أغسطس الماضي، أن فترة الاستقرار في العلاقات الروسية - الأوكرانية قد انتهت عملياً. وهيمنت قضية الغاز على لقاء الرئيسين الروسي والأوكراني. وقال الرئيس الأوكراني للصحفيين إن بلاده تريد خفض أسعار الغاز، ملمحاً إلى إمكانية رفع دعوى قضائية ضد روسيا، إن لم تستجب لهذا الطلب. من ناحيته، قال الرئيس الروسي إن هناك الكثير من المشكلات الماثلة، مشيراً إلى وجود عراقيل أمام فرص التعاون في مجال الغاز. وقال إن أوكرانيا ترفض الانضمام إلى مسيرة التكامل الإقليمي الذي تشترك فيه روسيا. وعلى الأخص الاتحاد الجمركي. ويدعو الجانب الأوكراني إلى ضرورة تغيير أسعار الغاز، التي حددتها اتفاقية عام 2009. وترفض أوكرانيا حل المشكلة من خلال الانضمام إلى مسيرة التكامل الإقليمي مع روسيا. والتي تشمل انضمامها إلى الاتحاد الجمركي، ودمج شركة "غازبروم" الروسية وشركة النفط والغاز الأوكرانية. وفكرة الدمج هذه كان قد اقترحها رئيس الحكومة الروسية، فلاديمير بوتين. وقامت السلطات الأوكرانية بدراسة هذا الاقتراح، وانتهت إلى رفضه في النهاية. ثم تقدمت بطلب جديد لتخفيض أسعار الغاز. واستناداً لتقارير روسية، فقد ألغى الرئيس الروسي زيارة كان مقرراً أن يقوم بها لأوكرانيا، في 31 تموز/ يوليو الماضي. وذلك بعد أن رفضت كييف توقيع اتفاقية دمج الشركتين الأوكرانية والروسية. وكان من المتوقع أن يلتقي ميدفيديف قوات البحرية الروسية في قاعدة الأسطول الروسي في البحر الأسود، التي تقع في مدينة سيفاستوبول، بشبه جزيرة القرم الأوكرانية. وعلى الرغم من ذلك، رجحت مصادر أوكرانية أن يكون دخول طراد أميركي إلى البحر الأسود، للمشاركة في تدريبات مع وحدات بحرية أوكرانية، هو سبب تراجع الرئيس الروسي عن زيارته للقرم. وأياً يكن الأمر، فقد تمسك الأوكرانيون بموقفهم المطالب بإعادة النظر في اتفاقية العام 2009، الخاصة بأسعار الغاز الروسي. وفي الخامس من آب/ أغسطس الماضي، أعلن رئيس الوزراء الأوكراني، نيقولاي آزاروف، أن الحكومة الاوكرانية تدرس إمكانية فسخ العقد "غير المربح" لاستيراد الغاز الروسي. وتأتي غالبية إمدادات الغاز إلى أوكرانيا من دول آسيا الوسطى، لكن الجانب الأوكراني يحصل على الغاز من شركة "غازبروم"، لأن الأنابيب التي يضخ عبرها الغاز إلى أوكرانيا مملوكة لهذه الشركة. ومن هنا، يعتبر الغاز غازاً روسياً. وهذه ليست المرة الأولى التي تثار فيها أزمة اتفاقيات الغاز بين روسيا وأوكرانيا. وهي لا تشير إلى خلافات تجارية وحسب، بل تعبر عن معضلة سياسية، وأزمة ثقة لا تبدو سهلة. وأوكرانيا هي ثاني أكبر دولة في أوروبا، بعد فرنسا، من حيث المساحة. ويبلغ تعدادها السكاني أكثر من 45 مليون نسمة، وفقاً لمؤشرات العام 2011، ينحدر أكثر من 40% منهم من أصول روسية. وفي العام 2010، بلغ الناتج القومي الإجمالي لأوكرانيا 305.2 مليارات دولار. وكان قد سجل نسبة نمو قدرها 4.2%. ووفقاً لمؤشرات العام ذاته، يبلغ دخل الفرد السنوي في أوكرانيا 6700 دولار. وهي تحتل بذلك المرتبة 134 عالمياً على هذا الصعيد، بعد جزر المالديف ( 6900 دولار)، وقبل كوسوفو (6600 دولار). علماً بأن المتوسط العالمي هو 11200 دولار. وتستورد أوكرانيا حوالي 147 ألف برميل من النفط يومياً. كما تبلغ وارداتها من الغاز الطبيعي 26.8 مليار متر مكعب سنوياً. وهي تُعد من كبار مستوردي الغاز في العالم، إذ تحتل المرتبة 11 عالمياً على هذا الصعيد، بعد كوريا الجنوبية (32.6 مليار متر مكعب)، وقبل هولندا (24.6 مليار متر مكعب). وتُعد أوكرانيا دولة صناعية، ومصدرة للمعدات والتكنولوجيا المدنية والعسكرية، على حد سواء. ومن هنا، تبدو قضية الغاز حاسمة بمعيار الضرورات الاقتصادية. وذلك بموازاة كونها جزءاً من ضرورات الحياة اليومية للمنازل والأسر. وبالعودة للخلاف الروسي - الأوكراني حول الغاز، تشير وسائل الإعلام الروسية إلى أنه لا يُتوقع أن يتمكن البلدان من تسوية القضايا العالقة بينهما قبل العام 2012، عندما تشهد روسيا انتخابات رئاسية، ستوضح من هو رئيسها. وتشهد أوكرانيا انتخابات برلمانية، يتيح الفوز فيها للرئيس يانوكوفيتش أن يصبح الرجل الأقوى في البلاد. وخلال أزمة الغاز، التي نشبت بين روسيا وأوكرانيا، في ذروة الشتاء، في كانون الثاني/ يناير من العام 2009، والتي أحدثت ضجة في أوروبا، شاع على نحو واسع مصطلح الاستخدام السياسي للغاز، وذلك في إشارة إلى أن موسكو تستخدم الوقود الأزرق كورقة ضغط على كييف، ومن خلفها أوروبا عامة. وفي دلالاته الأكثر مرجعية، يُمثل الغاز الطبيعي ساحة صراع دولي وتنافس جيوسياسي بين الدول الكبرى. وقد تجلى هذا الأمر بصفة أساسية، في سعي الغرب لكسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز في أوروبا، فشجع على الاستثمار في دول واعدة، ودخل في مشاريع لتشييد أنابيب نقل الوقود الأزرق، من منابعه في آسيا الوسطى والقوقاز، باتجاه أوروبا، بعيداً عن الأراضي الروسية، التي لا تزال تمثل ممراً قسرياً له. إن الأزمة الراهنة بين روسيا وأوكرانيا تفصح عن طبيعة المعضلات الجيوسياسية المستجدة، في عصر ما بعد الحرب الباردة، بين الشرق والغرب، وهي توضح أن المشكلات القائمة يصعب حلها دون مقاربة متكاملة، تلحظ الخلفيات، السياسية والاقتصادية والنفسية، الأكثر أهمية..