تشير التصريحات والتقارير والبيانات والتحليلات المالية والاقتصادية الصادرة أخيراً إلى عمق أزمة الديون السيادية الأوروبية وتداعياتها التي قد تستغرق فترة زمنية طويلة قد تستمر حتى نهاية هذا العقد، في ظل التخوف من وقوع صدمة كبرى تصيب ركيزة الاتحاد الأوروبي، أي فرنسا وألمانيا، والانعكاسات السلبية لهذه الأزمة على أداء اقتصاد أوروبا خصوصاً واقتصاد العالم عموماً، في ما يتعلق أساساً بالإنفاق والبطالة وحركة أسعار النفط وارتفاع تكلفة الديون وحركة السيولة وتدفق الاستثمار العالمي المباشر وغير المباشر، إضافة إلى تأثيراتها السلبية في أداء القطاع المصرفي في أوروبا وامتدادها إلى بعض دول العالم، ما أدى إلى سيطرة حال من التشاؤم والخوف وارتفاع الأخطار في معظم أسواق المال العالمية ومعظم الأدوات المالية والاستثمارية العالمية. وفي وقت لا تزال أسواق المال في المنطقة تلتقط أنفاسها في ظل تداعيات الأزمة المالية العالمية والأزمات الجيوسياسية في المنطقة هذه السنة، بالإضافة إلى خفض التصنيف الائتماني للولايات المتحدة، عمّقت أزمة الديون اليونانية والإيطالية والتخوف من انتشارها إلى دول أخرى، خسائر هذه الأسواق، فبلغت خسائر مؤشر سوق دبي المالية خلال الفترة من بداية الثلث الأخير من عام 2008، أي عند بداية التأثيرات السلبية للأزمة المالية العالمية، وحتى اليوم، 75 في المئة من قيمته، بينما خسر مؤشر سوق أبو ظبي للأوراق المالية 51 في المئة، ومؤشر السوق الكويتية 63 في المئة، ومؤشر السوق السعودية 34 في المئة، ومؤشر سوق البحرين 59 في المئة، ومؤشر سوق عُمان 52 في المئة، ومؤشر سوق قطر 28 في المئة، ومؤشر سوق مصر 60 في المئة، ومؤشر سوق الأردن 58 في المئة. في المقابل ارتفع مؤشر «داو جونز» خلال الفترة ذاتها بنسبة 20 في المئة على رغم الخسائر الكبيرة التي تعرض لها خلال هذه الفترة نتيجة تطورات أزمتي اليونان وإيطاليا، فاستطاع المؤشر تعويض خسائره من أثار الأزمة المالية العالمية وحقق مكاسب إضافية خلال 2010 وبداية 2011. وارتفع مؤشر «ناسداك» بنسبة 10 في المئة، بينما بلغت خسائر مؤشر «داكس» الألماني 13 في المئة و «فاينانشيال تايمز» البريطاني سبعة في المئة. ويساهم ارتفاع مستوى نضج أسواق المال العالمية وأدائها نتيجة سيطرة الاستثمار المؤسسي، وارتفاع مستوى الشفافية والإفصاح، وزيادة كمية السيولة وغيرها من العوامل، في تحرك مؤشراتها استناداً إلى أساسيات اقتصادية ومالية واستثمارية، بينما تدفع في المقابل سيطرة سيولة المضاربين الأفراد على حركة أسواق المنطقة، وضعف الاستثمار المؤسسي، وضعف الوعي الاستثماري، وانخفاض مستوى الشفافية والإفصاح، إلى انخفاض كفاءة أسواق المنطقة، فيبرز ارتباط حركتها بمؤشرات الأسواق العالمية في الانخفاض ومحدودية ارتباطها بهذه المؤشرات أو انعدامه في فترات تحسن أداء الأسواق العالمية، من دون الالتفات إلى أساسيات اقتصادات المنطقة، سواء لجهة نمو الناتج المحلي الإجمالي أو انخفاض مستوى المديونية أو قوة القطاع المصرفي ومتانة الشركات المدرجة لجهة تطور أدائها. وأدى ضعف السيولة في معظم أسواق المنطقة نتيجة سيطرة حال من الحذر والخوف والترقب أدت إلى نزوح حصة هامة من استثمارات الأجانب وبالتالي تدنت تداولات معظم الأسواق إلى مستويات عام 2004، أي قبل فترة انتعاش الأسواق في المنطقة والتي استمرت من نهاية عام 2004 إلى الربع الأخير من عام 2008. وقد تكون للانخفاض الكبير في سيولة الأسواق المالية إذ انخفض حجم التداول إلى ما نسبته 10 في المئة من حجم التداولات خلال الأعوام 2005 - 2008، آثار سلبية في انضمام أسواق الإمارات وقطر إلى مؤشر الأسواق الناشئة إذ يتوقَّع اتخاذ قرارات بهذا الموضوع خلال كانون الأول (ديسمبر) المقبل. ولا يفضل الاستثمار الأجنبي المؤسسي الدخول في أسواق ضعيفة السيولة لصعوبة الخروج منها والتحول إلى فرص استثمارية أخرى، واتخذت هيئة الأوراق المالية الإماراتية خطوات مهمة أخيراً لرفع مستوى سيولة سوقي الإمارات، ومنها إصدار قانوني «البيع على المكشوف» و»صانع السوق»، بينما يقع على عاتق الجهات الحكومية والجهات الرقابية الحفاظ على ثروة المستثمرين بعد خسارة نسبة كبيرة منها، هم الذين يشكلون نسبة مهمة من عدد السكان. يحتم هذا وضع الآليات المناسبة لفك الارتباط بين حركة أسواق المنطقة والأسواق العالمية باعتبار أن هذا الارتباط غير منطقي، خصوصاً مع تراجع أسعار أسهم شركات قوية تحقق إنجازات قياسية، وتراجع أسعار أسهم شركات تعمل في قطاعات لم تتأثر بهذه الأزمات مثل قطاعات الأدوية والغذاء والكهرباء والماء والتعليم وغيرها، لتصبح القرارات الاستثمارية في أسواق المنطقة أكثر نضجاً وتعود هذه الأسواق إلى القيام بدورها الأساسي كأداة مهمة للاستثمار لمختلف شرائح المستثمرين، فيما على هذه الأسواق تأمين التمويل للشركات والمستثمرين من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، لكنها أخفقت أخيراً في تحقيق هذه الأهداف. * مستشار أسواق المال في «بنك أبو ظبي الوطني»