«سأكون سعيدة جداً اذا زرتموني جميعاً في انكلترا، وسأزوركم المرة المقبلة في فلسطين» د. بولين لندن في 5/6/1986 كانت هذه آخر رسالة وصلتنا من الطبيبة بولين الى بريد منزلنا القائم على أطراف مخيم برج البراجنة قبل ان يزول المنزل عن الوجود نتيجة ما يُعرف ب «حرب المخيمات» التي كانت مشتعلة هناك. كان والدي مسؤولاً عن قسم التمريض والطوارئ في مستشفى حيفا التابع لجمعية الهلال الاحمر الفلسطيني، والقائم في مخيم برج البراجنة في ضاحية بيروت الجنوبية منتصف الثمانينات. وكان بطبعه الودود محبباً إلى قلوب الكثيرين، لذلك فقد كان لنا، أمي وإخوتي وأنا، شرفُ معرفة وصداقة الكثير من الأطباء والممرضين الفلسطينيين واللبنانيين والأجانب، ومنهم الطبيبة «پولين كاتنغ»، الطبيبة الانكليزية. ومن دون الدخول في الظروف السياسية المعقدة حينها، التي أدت إلى حصار أكثر من 8 آلاف انسان في بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحتها نصف كيلومتر مربع في ظروف مأسوية صعبة. أتت الطبيبة إلى لبنان مع مجموعة تضم عدداً من الأطباء والطبيبات المتطوعين، ومكثت في المخيمات الفلسطينية بضعة شهور في منتصف الثمانينات خلال مسلسل الحروب التي عصفت بلبنان منذ العام 1975 واستمرت حتى بداية التسعينات. استقرت في مستشفى حيفا حيث كانت تستقبل يومياً مئات الجرحى من مختلف الاعمار، وتحوّلت الطبيبة من جراحة التجميل إلى الجراحة العامة نتيجة كثافة الاصابات وتنوّعها، وأصبحت غرفة العمليات مسكنها الذي تقضي فيه معظم وقتها، تأكل وتشرب وتنام بين المصابين، الذين كانوا يصبحون ويمسون على ذلك الوجه البشوش. كان مضى على وصول الطبيبة شهرين حين زارت للمرة الأولى منزلنا الصغير وشاركتنا الخبز والزيتون، فقد كان هناك نقص حاد في الغذاء والدواء نتيجة الحصار المطبق على المخيم. أذكر حين دخلت علينا مع والدي منهكة وتهاوت بجسدها النحيل على فرشتي الصغيرة ورداؤها الأبيض ملطخ ببقعٍ حمراء، وأخذت بملاعبتي تحت دوي أصوات القذائف والصورايخ. لم أكن ادرك حينها مَن هذه المرأة، ومن أين أتت. علمت بعد ذلك بكل شيءٍ مصادفة، حين قرأت ملخصاً لكتاب خَطَّتْه عن ذكرياتها في مجلة عالمية هي «المختار» التي كانت تصدر بالعربية عن «ريدرز دايجست». وبسببها أصبحت أعتبر أن لا عمل أسمى من العمل التطوعي الذي يقوم به الأفراد بالتبرع بجزءٍ من الوقت أو المال أو الجهد، بل أكثر من ذلك، وبخاصة أن كثيراً من أعمال التطوع تنتهي بتقديم الحياة نفسها على مذبح الانسانية. فقد عرفت ان الدكتورة بولين كانت تقضي أسابيع في غرفة العمليات من دون كلل، تخشى النوم كي لا تضيع فرصة المشاركة في انقاذ حياة طفلٍ مصابٍ هنا أو امرأة جريحةٍ هناك. كما عرفت من والدي انها زارتنا حينها بناء على طلب زملائها بعد أربعة أيام متواصلة من دون نومٍ. زيارتها تلك لم تدم إلاّ دقائق، عادت بعدها إلى ما تعتبره واجباً مقدساً. شكرتنا على «لطافتنا»، التي لم تكن سوى استقبالها بابتسامة أمي الدائمة والمشرقة في ظلمات الحرب وقسوتها، وعلى ضيافتنا القصيرة، التي لم تكن سوى كسرة خبزٍ وبضع حباتٍ من الزيتون. أما أهالي مخيم برج البراجنة، فيتذكرون الطبيبة المتطوعة بالخير، ويعتبرونها مثالاً للتفاني في خدمة الانسانية، فقد ساهمت في انقاذ حيوات عددٍ كبيرٍ منهم. ويروي بعضهم انه في خضم تلك الحرب طُلِبَ منها مغادرة المخيم، فقالت: «سنبقى مع أهالي المخيم حتى زوال الخطر كلياً... فإما أن نحيا معاً او أن نموت معاً».