تنتشر صالونات الحلاقة في المخيمات الفلسطينية بكثرة نتيجة الكثافة السكانية من جهة وتسابق الشباب للعمل وكسب الرزق في هذه المهنة التي تعتبر مرغوباً فيها نسبياً لديهم، خصوصاً أنهم يتركون المدرسة باكراً للعمل. فتجد الصالونات في معظم أزقة المخيمات مزدحمة بالشباب العاطل من العمل، كما تجدها مسرحاً لتفاعل القضايا السياسية والوطنية بينهم. وبما أن الحلاقة من المهن المحدودة التي يمكن الفلسطينيين مزاولتها في لبنان، تجد الإقبال عليها كبيراً، ثم لا يصمد فيها إلا الأرخص تسعيرة والأفضل إتقاناً لفنها، وبالتالي فالبقاء فيها لصاحب النفس الأطول. كنت في العاشرة من عمري عندما قصدت للمرة الأولى بمفردي بدر الحلاق الفلسطيني في مخيم برج البراجنة. قبل ذلك كان يصطحبني والدي ويجلسني إلى المقعد الصغير، ويشرف على عمل الحلاق الذي كان يبدو سعيداً لأسباب عدة أهمها أنه لن يبذل جهداً كثيراً باعتبار أنها تسريحة مدرسية تقليدية، لا تحتاج سوى لآلة الحلاقة لجزّ شعري المسكين. وكم كنت أمقت تلك اللحظات وذلك الحلاق، لماذا؟ لأنه الوقت الوحيد الذي أجلس فيه من دون حركة وأنا مستيقظ، ولأن كل ما كان يهم بدر كلمات الثناء التي يطلقها والدي بعد كل قصة شعر، من دون أي اعتبار لمشاعري ورأيي في «الموضوع». عندما بلغت العاشرة أرسلني والدي إلى بدر، فجلست سيداً على المال (أجرة قصة الشعر) مطلِقاً الأوامر وطالباً منه تسريحة عصرية استوحيتها من صورة ممثل شاب. خرجت من عند صاحبنا بعد أن أضفت إلى الأجرة كل مصروفي المتواضع لذلك اليوم، وحرمت نفسي من سكاكري المفضلة. مشيت مختالاً بين أترابي بالتسريحة الجديدة، ولم تكد تطأ قدماي عتبة البيت حتى عدت أدراجي إلى الحلاق مطأطِئ الرأس، جلست متثاقلاً على الكرسي، لا أزال أتذكر وجهه بأنفه الأفطس وأسنانه البارزة وشعره الكث المنسدل بعناية على كتفيه، وهو يقول ساخراً: «كنت أنتظر عودتك أيها الصغير». تمنيت حينها أن يمكّنني الله من شعره يوماً ما حتى أعبث به بلا رحمة. منذ ذلك اليوم وحتى بلوغي السادسة عشرة كنت لا أبالي بتسريحة شعري، فقد اكتشفت أنني أسير خلف آراء والديّ بذلك الشعر النابت على رأسي. وحين كان يدلي أحدهما برأيه سلباً بتسريحة شعري، كنت أرمقه بنظرة لوم وعتب. لكن على رغم ذلك، لم أكن أشعر بثقل على رأسي فهناك من كان يتحمل المسؤولية إذا كانت التسريحة سيئة. اليوم، وقد رحل والديّ، وبلغت سن الأربعين، صرت أقصد حلاقاً آخر بعد أن هاجر بدر إلى كندا، وأجلس وحيداً على الكرسي. وعندما أعود إلى المنزل قلّما ينتبه أحد إلى تسريحتي الجديدة، أقف أمام المرآة، وأحن إلى أن يدفعني أحدهم للعودة مرة أخرى إلى الحلاق.