أصبحت السياسات الأوروبية بمثابة لعبة «جينغا» (التي يفترض أن يسحب اللاعب أكبر عدد من قطع تؤلف برجاً خشبياً من دون أن ينهار البرج) العملاقة. ومنذ حزيران (يونيو) تتساقط الحكومات في هولندا وسلوفاكيا وبلجيكا وإرلندا وفنلندا والبرتغال وسلوفينيا واليونان وإيطاليا. السؤال ليس: من التالي؟ فهذا سؤال سهل (حكومة إسبانيا الاشتراكية ستُسحق في الانتخابات بل هو متى ينهار برج ال «جينغا»؟ يفترض كثر أن الذروة ستكون عندما تترك أو تُطرد دولة ما – الأرجح أن تكون اليونان - من الاتحاد النقدي الأوروبي. بيد أن السيناريو الذي يقلق المسؤولين الأوروبيين مختلف. إنهم يخشون أن يترك بلد ما الاتحاد الأوروبي بمفرده. وهذا ليس قلقاً غير عقلاني، بأي معنى من المعاني. فوفق قانون الاتحاد الأوروبي سيكون من الأسهل لبريطانيا أن تترك الاتحاد من أن تغادر اليونان منطقة اليورو. ذلك أن عملية التكامل الأوروبية بلغت نقطة غنية بالمفارقات: انهيار الاتحاد الأوروبي مرجح اليوم أكثر من العملة الموحدة التي كان من المفترض أن تجمع دول الاتحاد إلى بعضها. وبدأ تدهور العملة الموحدة في عام 2010 على رغم أن الأزمة تصاعدت بالتأكيد في الشهور القليلة الماضية. وتسلّط عبارة «التدهور» الضوء على اختلال التوازنات على مستوى الجيل والتي تبرز من المزيج الأوروبي لسكان يتقدمون في السن بأنظمة رفاه مفرطة في الكرم. وحتى لو لم يكن هناك أزمة مالية ممتدة من أزمة الرهن السكني الأميركية التي بدأت في 2007، كان النظام المالي النقدي الأوروبي سيتفكك مع التصاعد الكبير في الديون العامة. لكن على أي وجه ستتفكك منطقة اليورو بعد تجميعها؟ وستشكل أثمان الخروج من الاتحاد حائلاً دون خروج بلد طرفي وصغير كاليونان الذي سيخسر في فترة وجيزة قدرته على الوصول إلى أي مصدر خارجي للتمويل. وسيرفع الرحيل اليوناني من قدرات الآخرين على ترك الاتحاد، ما سيحدث حالة من العدوى في جنوب أوروبا. أخيراً، إذا تعيّن على جميع الإخوة الضعفاء ترك الاتحاد النقدي ما عدا ألمانيا والنمسا وهولندا وفنلندا، فإن قوة اليورو ستسبب ألماً كبيراً للمصدرين من تلك البلدان. باختصار، لن يستفيد أحد تقريباً من تفكك منطقة اليورو. لذا، أنا لست من الحشد المتزايد من الخبراء الذي يتوقعون انهيار اليورو. وفي وسع كل من تابع أحداث التسعينات أن يكوّن فكرة واضحة عما أعقب الاتحاد النقدي مع جمهورية ألمانيا الاتحادية: قوة إنفاق قصيرة المدى مقابل بطالة طويلة المدى تخفف من حدتها المساعدات الحكومية. ويشك البعض في أن يكون دافعو الضرائب الألمان مستعدين للدفع لمقاطعتي ليسبوس (اليونانية) وليفورنو (الإيطالية)، مساعدات كما لو كانوا يدفعون لمقاطعة ليبزيغ. لكن في حال كان البديل هو تفكك منطقة اليورو، فإنهم سيفعلون ذلك. وأوضحت المستشارة أنغيلا مركل ذلك يوم الاثنين الماضي عندما حضت المسيحيين الديموقراطيين على قبول «لا أقل من أوروبا بل أكثر... ويعني ذلك إقامة أوروبا تضمن مستقبلاً لليورو. إن مسؤوليتنا لم تعد تتوقف عند حدود بلادنا». ويعتقد أولئك المراهنون على انهيار اليورو أن الألمان الذين يخشون التضخم خشية مرضية لن يقبلوا أبداً شراء المصرف المركزي الأوروبي لسندات على نطاق واسع - هذه السياسة المعروفة في الولاياتالمتحدة بالتهدئة الكمية. لكن هذا يحتاج ليس إلى دفع ديون حكومات البحر المتوسط (الأوروبية) بل أيضاً ديون المصارف المتعثرة – بما فيها المصارف الألمانية - على امتداد منطقة اليورو. وللاختصار نقول إن الاتحاد النقدي الأوروبي سيتمكن من البقاء على قيد الحياة على رغم أن مستقبله لن يكون مشرقاً بوجود مستوى عال من البطالة في جنوب أوروبا وضرائب مرتفعة في شمالها. لكن مصير الاتحاد الأوروبي ذاته سيكون مختلفاً. فإنشاء العملة الموحدة – والخضوع لقانون ذي عواقب غير مقصودة - أطلقا حركة تفكك أوروبية قوية. في واقع الأمر إن الدول ال 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي لم يكن الانضمام إلى الاتحاد النقدي خياراً أول لها. ونحن اليوم أمام نظام من مستويين، حيث تتشارك 17 دولة اليورو في حين أن الدول الأخرى تحتفظ بعملتها. النتيجة أن القرارات الأساسية اليوم - خصوصاً تلك المتعلقة بحجم نقل الأموال من دول القلب إلى دول الطرف - تتخذ من قبل 17 وليس 27 دولة. لكن الدول العشر غير الأعضاء في منطقة اليورو قد تجد نفسها، مع ذلك، مضطرة لتمويل أي تركيبة من المساعدات لسداد الديون وإعادة رسملة المصارف التي تقررها الدول ال17. وقد تواجه الدول غير المنضوية في منطقة اليورو قيوداً مالية قاسية أو ضريبة على تحويل الأموال، وأفكار كهذه تحظى بالشعبية في برلين أكثر مما في لندن. ودوام هذا التوازن غير ممكن. وإذا كانت دول اليورو عازمة على متابعة الطريق نحو الفيديرالية – وليس لديها أي بديل أفضل - فإن البلدان التي لا تستخدم اليورو ستواجه خياراً قاسياً: التخلي عن السيادة النقدية أو القبول بدور مواطنين من الدرجة الثانية. في هذه الظروف يبدو المنطق الداعي إلى بقاء بريطانيا في عضوية الاتحاد الأوروبي يفتقر إلى قدرته على الإقناع شيئاً فشيئاً. وإذا طرحة العضوية على الاستفتاء على ما يرغب المحافظين، فإن البريطانيين سيصوتون لمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وفي لعبة ال «جينغا» الأوروبية الكبرى، يتوقع كثر سقوط حكومة نيكولا ساركوزي الفرنسية في العام المقبل. بيد أن الأمر الذي قد يسبب انهيار الاتحاد الأوروبي أو على الأقل تقلص حجمه سيكون الانسحاب الصريح لبريطانيا. وهذا ما يبدو معقولاً. * مؤرخ وصحافي، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 19/11/2011، إعداد حسام عيتاني.