العنف المادي والسياسي، الذي يسيطر على الأيام العربية، ليس حديث النشأة، بل جرى التأسيس له منذ عقود طويلة، وما بات معروضاً على الشاشات، من ممارسات قاسية، ليس إلا امتداداً للأعمال العنيفة «الناعمة»، التي ظلت في كواليس الكتمان، وضمن عوالم المسكوت عنه، خشية أو ريبة أو طلباً للسلامة الشخصية. لقد صار العنف سياسة وحيدة، عندما فشل القادمون إلى منصات الحكم في تحقيق ما وعدوا به، وأسفرت التقدمية والتحررية والوحدوية، عن عجز بنيوي، تسلح المصابون به بالمنظومة القمعية، لدرء تداعياته السياسية والاجتماعية الخطرة. تداخلت في المنظومة القمعية عناصر عدة، بعضها من صناعة «أنظمة التقدم»، وبعضها من موروثات المجتمع المعني، في المكانين ابتكر النظام الأمني وأضاف إلى الموجود، وفي كل الأمكنة قام بتحالف وثيق، بين اللامعقولية «النظامية»، واللاعقلانية «المجتمعية». التمييز بين عقلانية النظام ولا معقولية سياساته، ضروري. العقلانية، بحدودها المعتمدة، تعني إعمال العقل في تشخيص المصالح الخاصة، وفي تأمين سبل حمايتها، وفي توفير طوق مقبول «لشرعيتها». هذه الشرعية ضرورية، في حالة الانقياد الاجتماعي، وفي حالة الرفض، أو الخروج على مسوّغات ومقومات الشرعية. المقصود، إذاً، أن كل نظام يُعمل عقله، أي أنه يدرك ما يقوم به جيداً، ولا ضرورة، بالتالي، لأفكار الناصحين، الذين يقترحون عليه سياسات من بنات خيالاتهم. «أهل مكة النظام، أدرى بشعابها»، هذا هو لسان حال كل متحكم بالبلاد والعباد. لكن ليس كل عقلي نظامي، معقولاً، والمعقول محدد، في هذا المجال، بما يمكن قبوله برضى، والاستجابة إليه باطمئنان، أي كل ما يقع ضمن حيز المصالح المشتركة للمحكومين. لقد مرّت التقدميات الرسمية، بفترة «معقول» وجيزة، لم تتجاوز سني حكمها الأولى. كانت تلك فترة الشعارية العالية، وبعض التقديمات العابرة، التي لم تتجذّر في البنية الوطنية العامة، الخاصة بكل بلد. ما خلا ذلك، كانت أزمنة اللامعقول، حيث اللائحة تطول، لكن الأبرز من عناوينها يظل الاستبداد والإفقار والفساد، والقمع والإلغاء والإقصاء، ودعم مقولات التخلف وتشجيع تصنيعها، وتقويض الوحدة الوطنية وشرذمة مشتركاتها... وتعريض الاستقلال والسيادة إلى منوعات «مد الأيادي الخارجية». سياج اللامعقول هذا، أدوات إعلامية ضخمة، وبث أيديولوجي مستديم، تساهم فيه، بحماسة، بطانة النظام، الفاشل سياسياً، وقوى الموروث، التي انتهت صلاحياتها، تاريخياً. مادة القوى هذه، هي اللاعقلانية، لأن العقل العقلي، منحّى لمصلحة «العقل، النقلي»، ولأن مرجعية السياسة لديها، ما فوق مجتمعية، وأحياناً ما فوق جغرافية، هذا على رغم تمسك القائلين بها، بالتاريخ وبالجغرافيا، تمسكاً يجعلهما خاويين من كل مضمون. تستخدم اللامعقولية النظامية، اللاعقلانية السياسية والفكرية لبعض قوى الاجتماع المحلي، فتنتهي وإياها إلى صوغ معادلة غير مقبولة من الغالبية الشعبية، هنا ينشأ الصدام ما بين اللامعقول واللامقبول، فيأخذ طريق انفجاره من خارج القنوات المعروفة، التي سدّها «التحالف النظامي» السياسي والأيديولوجي، وغالباً ما يكون التعبير عنفياً، لأن المنظومة النظامية، كانت أول من لجأ إلى «وضع الحراب على جدول الأعمال». وفقاً لذلك، كانت التقدمية مشروع حرب أهلية كامنة، وها هي، بفعل تراكماتها السلبية المزمنة، تتحول إلى اقتتال أهلي معلن. نماذج التقدميات التي باشرت هذا المصير الاحترابي، ماثلة للعيان، وتعداد بلدانها يسير، من الصومال الذي تفكك، إلى السودان الذي فشل في الاحتفاظ بوحدته، إلى العراق الدامي، إلى اليمن وليبيا وسورية فالجزائر، حيث يقدم «التقدميون»، مسألة بقاء أنظمتهم على مبدأ استمرار أوطانهم، بما هي أوطان الحد الأدنى، جغرافياً واجتماعياً، وفي باقي الميادين. لقد ولّى زمن النظريات التحررية الشمولية، التي اختبأت خلف «العلمانية» لفظاً، واسترسلت في موروثها القبلي والجهوي والعائلي... ممارسة، كذلك أسقط الزمن الشمولية الدينية، التي غرفت من جعبة «أخواتها التقدميات»، فاقترحت حلولاً ماضوية للأزمنة المقبلة. لكن السقوط الزمني هذا، لادعاءات النهضة والتحرر، يلزمه نهوض زمني آخر، يراكم بدائله، بتأنٍّ، في الفكر وفي السياسة وفي الاجتماع. هذا يعني افتتاح مرحلة طويلة ذات شقين متلازمين: أولهما، السجال ضد راهنية الأفكار والسياسات والمشاريع التي تقادم حالها، فرثّت وهلهلت، وثانيهما، التقدم بخطاب تنويري، له مستنداته الثقافية، وتوابعه البرنامجية. التنوير هو ما يحتاج إليه «ربيع العرب»، هذا إذا قيّض لزهراته «النشوء والارتقاء». * كاتب لبناني