تطرح الإنتفاضة الشعبية المتنقلة، مسألة «منظومة الحكم»، التي قامت باسم التحرر العربي، وحملت رايات الحرية والاستقلال والعدالة الاجتماعية. كانت الانقلابات العسكرية سبيل بعض النخب الوطنية الجديدة، إلى الحكم، وكانت الحركات المسلحة سبيل بعضها الآخر. استمدت الأنظمة الناشئة زخمها من معطيين أساسيين: مطلب الاستقلال، كرد على الحقبة الاستعمارية المديدة، وهدف التحرير، بعد أن التف الاستعمار «الجديد»، على استقامة الاستقلالات الوطنية، باغتصاب فلسطين. شكلت المهمة الاستقلالية – التحريرية، جزءاً من معادلة الشرعية السياسية، وكان الجزء الآخر، موضوع الحرية، ومسألة العدالة الاجتماعية. أعطى الجمهور المدى التاريخي اللازم لإنفاذ الوعود، ولتحقيق الأهداف، وقدم الولاء السياسي، الأرحب، من أجل توفير المهلة الزمنية الكافية، لقادة التشكيلات الاجتماعية، الجدد. لكن حكم التاريخ لم يتأخر، فلقد سقطت «المنظومة الحاكمة التحررية»، تاريخياً عام 1967، بعد الهزيمة المدوية أمام قوات الغزو الإسرائيلية، ولم تفلح الحرب الاستدراكية، عام 1973، في تغيير المنحى التاريخي الانحداري، لهذه المنظومة. كان للاستدراك مفعول جرعة الثبات، وإطالة العمر السياسي، لكنه لم يحفل بمعاني الانعطافة النهضوية المطلوبة. في موازاة السقوط التاريخي، بل وعلى الضد منه، تماسكت الأنظمة الحاكمة، فأجّلت سقوطها السياسي، الذي كان يجب أن يتلازم مع فشلها التاريخي. عناصر التماسك السياسي كانت كثيرة، لكن الأبرز من بينها، كان القمع الشديد الذي مورس ضد المجتمعات، والديماغوجيا القومية، التي أصر أصحابها على «تحرير فلسطين» بكل الوسائل، واعتماد سياسة «سلفية»، في السياسة وفي الاجتماع، ورعاية التعبيرات الماضوية، ودعم وحماية جماعاتها وتنظيماتها. بعد غياب الوعود التقدمية، وتبخر إمكانها، صارت الأنظمة، التقدمية سابقاً، منظومات ردة، على صعيد الداخل، وأنساق ارتهان، حيال الخارج، هكذا رُحّلت السيادة والاستقلال، وهكذا، تقهقرت الحرية والعدالة الاجتماعية، ولم يرسخ على مسرح الدولة الوطنية، سوى القهر والفقر، والتحكم البوليسي بمظاهر الحياة اليومية. لقد جرى التاريخ، وما زال يجري، خارج المصطلحات الأولى لنسق الحكم العربي «التقدمي». حوامل التاريخ لم تنقض عناوينه الكبرى، لكنها أعطتها، بالتأكيد معاني مختلفة. لعل المعنى الأبرز في «حركة الشباب» المنتفض هو الفرد بتدفقه الحر، وبأفقه الإنساني، وبمضمونه المجتمعي. تعريف الفرد هذا، لذاته، مختلف عن كل ما أعطي له من تعريفات سابقة، فهو الآن، ابن نسقه الحضاري الجديد، وابن حاجاته المدنية الحديثة، وابن السياق الاجتماعي الذي يؤطره التاريخ ولا يسجنه، وتحدده الجغرافيا ولا تحد من عبوره، وتعرّفه الهوية ولا تقيّد انفتاحه وتفتحه. ومع كل الحذر الواجب، يمكن الاستطراد للقول، إن الفرد المنتفض اليوم، ليس ماضياً، بل هو الراهن والمستقبل، لذلك فإن الإجابة لا يمكن أن تكون إلا طليقة وحرّة. في كثير من أوجه الشبه، تستعيد الانتفاضات اليوم، الوعود التي ضاعت، إنما بشروطها، وتعلن عزمها على التصدي للمهمات التي فشل «الثوريون» في القيام بها، إنما بما يتناسب ومعطياتها الحضارية والأخلاقية. من دون اعتباط، أو من دون تكبيل المعاني، تحول المطلب الاستقلالي – السيادي، إلى شأن فردي، يمس الفرد في «حريته» أي في وجوده ككائن حر. العدالة الاجتماعية «فردية» هي الأخرى، لأنها تخاطب الكرامة الإنسانية للفرد، أي معنى الأنسنة التي يتمتع بها، ويمتاز بامتيازاتها، التي تفرق بينه وبين سائر أدوات معاشه. تعلن صيحات الغاضبين سأمها من لعبة الأرقام، وتطمح إلى وضع حد للغة التعداد، ولسياسة التأفف من تكاثر «البطون»، مثلما تجهر برفض سياسة «العصا»، لأنها تريد أن تذهب إلى موسم «الجزر» الذي ستزرعه بأياديها. لكن الحذر، في مقام الأوضاع اللاهبة، أكثر من واجب، والدقة أكثر من لازمة. عليه يجب الاعتدال في الحماسة المواكبة للحركات الشعبية، ما أمكن، أي يجب ألا تحمَّل فوق ما تحتمل، بحيث يتراجع حديث الرهانات إلى حجمه الواقعي، ويتقدم كلام البدايات إلى موقعه الطبيعي. الاعتقاد بأن ما يحصل في أكثر من بلد عربي، هو مجرد بداية، يظل أقرب إلى منطق الدقة السياسية. يدعم ذلك ما يرشح من معلومات حول حداثة تجربة «قوى الاحتجاج»، عمرياً وسياسياً، مثلما يدعم الأمر، رسوخ الأنظمة السياسية المستهدفة، وما راكمته من خبرة في كافة المجالات. الاكتفاء بصفة البداية، يجعل كل الاحتمالات مفتوحة، وقد تتساوى عوامل النجاح مع عوامل الفشل، إذا ما جرى قياس الأمور بمقياس المآل الأخير، وليس بأدوات اللحظة الراهنة. قد لا يعجب الوصف «البدئي» بعض بقايا المنظومة التحررية الفاشلة، مثلما قد لا يقع موقع ترحيب، لدى بقايا منظري الحقبة التقدمية المنهارة، لكن هذا الوصف ينصف القوى الجديدة المتحركة، ويعينها، بالتفاعل السياسي والفكري معها، على تلمس أشكال تعبيرها وانتظامها، ويريحها من جمهرة أدمنت ثقافة الصمت، وتحركت في مساحة السماح الرسمي، ولم تكتشف «قدرتها» الخبيئة، إلاّ عندما أماطت القوى الجديدة اللثام عن عجزها المكين. نأمل بأن تتطور البداية الشعبية الجديدة، لتطاول كل أنسقة المنظومة التحررية، التي فقدت بريقها وأنظمتها في أمكنة، وما زال «البوليس الثوري التقدمي» يطيل عمرها في أمكنة أخرى. * كاتب لبناني