مهما كتب إسماعيل كاداريه عن الديكتاتورية في ألبانيا، وهو لا شك يبدع في ذلك، يظل أدبه يفتقد ما يتميز به الأدباء الآخرون في ألبانيا الذين يشقون طريقهم الى العالم بالترجمات الجديدة لكتبهم: تجربة السجن في أسوأ وآخر ديكتايورية عرفتها أوروبا الشرقية في النصف الثاني للقرن العشرين. والسبب في ذلك بسيط لأن كاداريه كان عضواً لثلاث دورات في «مجلس الشعب» وأصبح نائباً لرئيس «الجبهة الديموقراطية» التي يفترض ان تكون الجهة الحاكمة في البلاد (الواجهة العلنية للحزب الشيوعي)، ولذلك لم يتح له ان يعاقب وأن يسجن وأن ينفى داخل بلاده، وأن يرسل الى معسكر للعمل الخ. عن هذا الغولاغ الألباني لدينا أدب مؤثر، لدينا شهادات ومذكرات وروايات أيضاً لكبار الكتاب في ألبانيا. ومن هؤلاء فاتوس لوبونيا الذي صدرت الآن روايته «الحكم الثاني» بالانكليزية عن دار نشر «ل.ب.تاورس» L.B.Tauris . وصدرت هذه الرواية التي ترجمها الى الأنكليزية جون هودجسون بعنوان فرعي كان لا بد منه للقارئ الانكليزي «الحكم الثاني: من داخل الغولاغ الألباني». وحتى صدور هذا الكتاب كان الغولاغ تعبيراً روسياً بامتياز، ولكن مع صدور الترجمة الإنكليزية لرواية «الحكم الثاني» سيكتشف القارئ الغربي الغولاغ الألباني وربما يراه أسوأ من الغولاغ الروسي. وحتى لا يعتبر القارئ الغربي الغولاغ الألباني من صنع الخيال الروائي فقد أضاف المترجم خاتمة تحدث فيها عن ألبانيا خلال حكم الدكتاتور أنور خوجا 1945-1985، حيث كانت حرية التعبير مجرد مفهوم ذهني وحيث كانت المحاكمات ل «أعداء الشعب» والتصفيات ومعسكرات العمل والنفي جزءاً لا يتجزأ من الحياة اليومية. وفي الواقع ان الظروف التي نشأ فيها فاتوس لوبونيا خلقته من جديد وحولته من طالب فيزياء الى كاتب قصة ورواية من الطراز الأول. ولد فاتوس في تيرانا عام 1951 لواحد من النخبة الحاكمة الجديدة (الشيوعية) في ألبانيا، حيث ان والده تودي لوبونيا (ولد 1923) كان من الكوادر العليا في الحزب الشيوعي الألباني. ولكن بعد الخلاف الإيديولوجي مع الاتحاد السوفياتي في 1960 اعتقل ونحي بتهمة موالاة الخط السوفياتي. وبعد ذلك أطلق سراحه وأعيد للعمل في مجال الثقافة حيث تولى منصب مدير التلفزيون الألباني. ومع دورة التصفيات التي كان يجريها انور خوجا من حين الى آخر اعتقل تودي ثانية في 1973 بتهمة التساهل امام «الافكار والتأثيرات البرجوازية المنحطة»، وذلك في إطار الحملة التي قادها أنور خوجا ضد «التأثيرات الاجنبية» في الثقافة الألبانية وضد المثقفين بتهمة «التعالي عن الجماهير العاملة». وأدت هذه الحملة وما صاحبها من ترويع في ربيع 1973 الى إعلان 13 كاتباً وفناناً عن قرارهم بالتخلي عن الحياة في المدن والذهاب للعمل الجسدي في الحقول الزراعية وورشات البناء لتوثيق علاقاتهم مع «الجماهير العاملة». وفي هذا السياق حكم في تموز (يوليو) 1974 على تودي لوبونيا بالسجن مدة 15 سنة قضي منها 13 سنة في أسوأ سجن (بوريل)، ثم حكم عليه لاحقاً بالنفي الى قرية نائية. في ذلك الحين كان فاتوس يدرس الفيزياء في جامعة تيرانا، وقد اعتقل بدوره لأنه عثر خلال تفتيش البيت على دفتر يومياته التي تضمنت انتقادات للنظام الشيوعي كما كان يطبق في ألبانيا. وقد حكم على فاتوس آنذاك بالسجن مدة خمسة أعوام. وخلال وجوده في السجن اتهم بالانتماء الى حلقة مؤيدة للسوفيات وحكم ثانية بالسجن مدة عشرين سنة. وبعد مضي 13 سنة في أصعب الظروف نقل الى السجن الانفرادي ليقضي بقية محكوميته. وهناك تمكن من كتابة يومياته وروايته «الحكم الثاني» على ورق السكائر التي كان يخفيها في قاموس. وبعد سقوط جدار برلين واهتزاز النظام الشيوعي في ألبانيا، الذي أرغم على التخلي عن احتكاره للسلطة في 1991، أطلق سراح فاتوس لوبونيا بعد ان مضى في السجن 19 سنة. بعد خروجه الى الحرية والحياة فوق سطح الأرض بدأ ينشر ما كتبه في السجن من يوميات كما نشر روايته «الحكم الثاني» و «المجزرة الأخيرة» التي يستعرض فيها ألبانيا تحت الحكم الشيوعي، وبرز بسرعة ككاتب وناقد وأسس أفضل جريدة أدبية تصدر في ألبانيا الآن (المحاولة). وهكذا بدل ان يتابع فاتوس دراسته ويتخرج من قسم الفيزياء تخرج من سجون ألبانيا بتجربة عميقة ومؤثرة تجعل من يقرأ روايته «الحكم الثاني» يشعر بالقشعريرة في بعض الصفحات التي يصف فيها أساليب التعذيب النفسي والجسدي سواء خلال الاعتقال والتحقيق ثم في غياهب السجون. وقد تصادف صدور روايته «الحكم الثاني» بالإنكليزية مع اقتراب الذكرى العشرين لهدم سور برلين، مما جعل الصحيفة الألبانية المعروفة «شكولي» (عدد 23/6/2009) تتساءل بحق عما بقي من «الغولاغ الألباني». فقد تغيرت ألبانيا بسرعة كبيرة خلال عشرين سنة الى حد ان الجيل الجديد الذي ولد بعد 1991 لن يصدق ما حدث في ألبانيا خلال 1945-1991 لسبب بسيط: لم يبقَ من «الغولاغ الألباني» إلا أعمال فاتوس لوبوينا وبخاصة «الحكم الثاني»، وبعض اليوميات والمذكرات لكتاب آخرين، بينما لم يحتفظ الألبان بالآثار المادية ل «الغولاغ الألباني» التي تجعل قراء فاتوس لوبونيا يصدقون بأنهم لا يقرأون رواية من الخيال بل من الواقع.