اختتم تنحي الرئيس المصري حسني مبارك وانتقال السلطة الى الجيش مرحلة من التاريخ المصري كانت بدأت مع انقلاب 23 تموز (يوليو) 1952. لم يكن لهذا التنحي ان يحصل من دون الحراك الاجتماعي والسياسي الذي انخرطت به جموع فئات الشعب المصري على امتداد ثلاثة اسابيع. يشكل حدث سقوط رأس النظام قطيعة في الوضع المصري واستمرارية في الآن نفسه، فالقطيعة يمكن التعبير عنها بهذا الانفجار الشعبي وطريقة سقوط الحكام خلافاً لما جرت العادة عليه عبر الانقلابات العسكرية، وهو أمر سبق أن عرفته مجتمعات عدة من خلال الثورات التي شهدتها او الطفرات الثورية التي عاشتها، وهو ما يشار اليه، عن حق، بأن مصر بعد الانتفاضة غيرها قبلها. اما الاستمرارية فتتمثل من خلال إيلاء الحكم الى الجيش الذي شكل مصدر حماية النظام واستمراريته منذ عام 1952، وإعلانه صراحة عن إدارة الحكم لمرحلة انتقالية لمدة ستة أشهر قادمة والعودة بعدها الى الحكم المدني. فهل تحققت المطالب التي انطلق التحرك على اساسها، وما المخاطر المحيطة بالمرحلة المقبلة؟ اول المخاطر تتمثل في طبيعة السلطة العسكرية القائمة حالياً، صحيح أن الجيش سعى إلى عدم الانخراط في قمع التحركات من أجل الإبقاء على الرئيس، وهو بذلك جنّب مصر نتائج كارثية، لكن الجيش بتركيبته وطبيعة الدور المنوط به بعد التحولات الدراماتيكية التي عرفتها مصر في العقود السابقة، يبقى مصدر شكوك في التحول الى حكم عسكري يعيد الديكتاتورية بأسلوب آخر. والصحيح أيضاً أن الجيش نجح في استيعاب المطالب ووعد بتلبيتها والعودة الى حكم مدني بعد ستة أشهر، لكن وعود اللحظة الساخنة ليست كافية للثقة من العودة الى الديكتاتورية. الخطر الثاني يتعلق بمآل قوى التحرك وحدود التأطير والتنظيم لهذه القوى. صحيح ان التحرك نجم عن اقتران الاحتقان الشعبي وفي وجه الطغيان، بالقدرة على استخدام التكنولوجيا الحديثة خصوصاً الإنترنت منها، ما أمكن تجاوز الرقابة التي تفرضها السلطات على الأفكار المناهضة لها. لكن التحرك فاض عن حدود الشباب الذين كان لهم الفضل في إطلاق الشرارة، ليتحول الى حراك شعبي يشمل جميع فئات الشعب المصري من دون استثناء. هذا الحراك يصعب أن يتجدد أو يستمر في غياب حركات سياسية تقوده وتؤطره وتجعل منه عنصر تهديد للسلطة القائمة وإمكان العودة الى الشارع، اذا ما جرى الالتفاف على مطالب الشعب. لا تدعو الى الارتياح والاطمئنان بعض التصريحات للقادة الشباب لجهة توصيف حركتهم ونزع التسييس عنها. ركزت بعض التصريحات على نفي وجود «أجندات سياسية»، وان الحركة ستنتصر لأن الشباب لا يفهمون «في السياسة والموازنات والتفاوضات وألعابها الحقيرة»، إضافة الى التعابيرالوجدانية من قبيل ان الشباب سينتصرون «لأن دموعهم تخرج من قلوبهم ولأن احلامهم مشروعة، ولأن الموت عندهم أغلى وأشرف من الحياة من دون كرامة...». من دون شك تكتسب هذه التعابير أهمية في سياق الحراك القائم، لكن هذا الكلام يتحول «مقتلاً» للتحرك عندما ينفضّ وتعود الناس الى عملها. هنا سيبرز مأزق الحراك الشبابي، فإما أن يفيد من الحدث ويعمل على تكتيل نفسه في حركات سياسية مستندة الى برنامج محدد موجه الى الجماهير، حاملاً تحذيراً فعلياً للسلطة بالعودة الى الشارع، وإما ان «تتحلل» هذه الجموع وتتحول الى أفراد لا قدرة لهم على مواجهة التهرب السلطوي من المطالب. ولا يتوهمن احد ان ما حصل من نزول جماهيري الى الشارع واجبار مبارك على الرحيل يمكنه ان يتجدد بالفاعلية نفسها. هنا تتجلى مقدرة الشباب على الانتقال من العفوية والشعارية الرومنطيقية احياناً الى تحويل حراكهم قوة سياسية منظمة راهنة ومستقبلية. الخطر الثالث يتصل بتفكك الحياة السياسية والحزبية وتآكل اقسام كبيرة منها، وشيخوخة ثقافتها السياسية ومفاهيمها الأيديولوجية. لا يخفى ان القوى ذات التنظيم الفعلي تتمثل بالجيش والقوى الامنية من جهة، وبالإخوان المسلمين من جهة اخرى، ما يعني ان القوى اليسارية والليبرالية والقائلة بالحكم المدني تواجه تحديات في اعادة التأطير واطلاق البرامج السياسية ووعي ما طرحته الحركة من تجديد حتى يمكنها اللحاق بالحدث ومنع اجهاضه واحتوائه من الجيش او حركة الإخوان المسلمين. والمطروح على هذه القوى ان تعي طبيعة المرحلة الجديدة التي دخلتها مصر، وان تطرح خيارات اجتماعية وسياسية تتلاءم مع المرحلة الجديدة. تقع اهم الخيارات في الجانب الاجتماعي، فالنظام السابق اعتمد «رأسمالية متوحشة» افضت الى قيام طبقة من رجال الأعمال والمال والطفيليين الذين نهبوا الموارد المصرية وعاثوا فساداً في البلد وتسببوا في فقر مدقع لمعظم ابناء الشعب المصري، ما يطرح طبيعة الخيارات الاجتماعية في المرحلة المقبلة. أما في الجانب السياسي، فلا يكفي رفع شعار الديموقراطية والعودة الى الحكم المدني، بل التحدي المقبل سيكون في مدى القدرة على إنتاج ثقافة سياسية متجددة حول طبيعة الديموقراطية في مصر وأي حكم مدني، والابتعاد عن اجترار اللفظية التي حكمت الأحزاب السياسية طوال عقود من الزمن. إن ملء هذا الفراغ أمر مهم جداً حتى لا تبقى الأطر التنظيمية التي بلورها او قد يبلورها الحدث المصري، خاوية من السياسة بمضمونها الفكري والاجتماعي. لقد أعطت الانتفاضة المصرية أملاً للشعوب العربية بإمكانية تغيير في أنظمة الاستبداد القائمة، وفي إمكانية تجديد مشروع نهضوي عربي. والخوف من أن يتبدد هذا الأمل اذا لم يحسن اصحاب الانتفاضة المصرية في تحويلها الى حكم ديموقراطي يوظف السياسة والاقتصاد في مصلحة الشعب المصري. والخوف له ما يبرره انطلاقاً من تجارب تاريخية عرفت مصر بعدها ايام انتفاضة الخبز عام 1977، كما عرفتها ثورات عدة في العالم امكن تحويلها إلى غير المسار الذي قامت على أساسه. * كاتب لبناني