تروٍّ، وسكينة، ووقار، الجميع مروا من هنا... كانت التروية في العهد الماضي تعني لهم الارتواء بالماء للأيام المقبلة. ولكنهم أتوا إلى هذه البقعة، ليشموا ترابها، ولتتخفف كواهلهم من الأوزار، يحملون على ظهورهم حقائبهم، وكلهم أمل في أن يرتووا بالقبول والتجاوز دعوة واحدة قد تصل بك إلى أعلى عليين، وتعتقك بحيث تكون منزلتك مع السفرة الكرام البررة. مروا جميعاً من هنا... مدّت المرأة ذراعها الحنون لتعين الرجل على حمله، لتؤكد أنها مرّت من هنا... والتحمت أطراف الأطفال في سعادة غامرة بأول حضور لهم إلى هذه العتبات القدسيّة، فالتحموا بالحواجز وأرسلوا نظراتهم الرائقة إلى المدى... حتى الرضّع، ستشهد هذه البقعة الطاهرة الزكيّة أنهم حلقوا بأيديهم فرحاً، وطوّحوا بها في اتجاه السماء التي تتهاطل بالرحمات الدافقة، ثم استراحت أعناقهم على رؤوس آباء وأمهات، حملوهم ليستمطروا بهم شآبيب الرحمات... والنساء الكبيرات، جلسن يحرسن أبناءهنّ الرجال، ويستحضرن الحبور الغامر الذي يعصف بدواخلهن، أي حلم تحقق... إنهم هنا... وستشهد هذه الأراضي الزكية لهم عند ربهم، بأنهم كانوا هنا. وها هم أولاء، بخطى حثيثة متلهّفة، وعيون أحرقها الشوق، يستقبلون بوجوههم عرصات عرفات الله، في سويعات الوقفة المهيبة، التي يباهي فيها الجبار ملائكته بعباده... هنا حيث يختصر الحج كله في وقفة ساعة، في إشارة رمزيّة إلى أن الحياة كلها ليست سوى وقفة عزّ وعبودية، وطوبى لمن التحف باللون الأبيض، واتجه إلى السماء، منادياً ومناجياً رحمان السموات والأرض.