خرج الساسة العرب من بين أنقاض تاريخ يعج بالحروب والهزائم وصيحات طلب الإغاثة، تلاحقهم الثورات وتحيط بهم المؤامرات، وهموم الحفاظ على الكراسي لإرث يخططون لطوله وعرضه، كم مرة خان الذكاء الفطري صاحبه، وهذا ما تمثل للحاكم العربي الذي يملأ أجندته بمسكنات الخطب وضجيج التصفيق والوعود الزائفة، وتخويف الشعوب من المراحل الدقيقة والحساسة، فيركن إلى دستوره السياسي الذي فَصّله بأحبار البقاء وطمس خيوط المعارضة، وصوت الرأي الآخر. المفاوض العربي يعتقد واهماً أن الضعف يولد قوة محبطاً من حوله ومتمادياً في التغابي، تغلغلت مع مرور الزمن وتراكم الخيبات والفشل إلى جذور الثقافة العربية فقلبت معادلة «ليس بالإمكان أحسن مما كان» «منوخةً» الركاب في سوق البلادة، مجنبةً العقل العربي ويلات الحضارة وإنهاكه في نظريات البحث ومعامل الإنتاج والابتكارات العلمية، ويحسب للحاكم العربي فتح الحدود على مصراعيها للاستيراد من الشرق والغرب مع حفاظه على حقوق وامتيازات الأقربون أولى بالمعروف! القضية الفلسطينية تربعت على شرايين الثقافة العربية، فكر وفلسفة، صوت وصورة، حركة وسكون، تطلعات وانعدام نكران الذات، لم يكن مستغرباً تلك الفوضى المزاجية التي أودت بحبال القضية إلى بئر معطلة وقصر رئاسي مشيد، ثارت منه أدخنة فساد وألوية وثائق سوداء أطاحت بأحلام من يسعون للاقتراب من تحرير الأرض وإعادة الكرامة. كم هو قائل خنجر الخاصرة، ويا لهول ما يفعله قاتلوا الأحلام الذين حولوا عاصفة التصفيق في منابر الأممالمتحدة إلى نصر مؤزر ارتسمت بعده الابتسامات ورَسّخ الوهم قضبان كرسي الرئاسة الوثير، هكذا بعثروا أحلام شعب يتطلع إلى استرداد المقدسات ومنازل الآباء والأجداد، ومكنوا شعب بلا أرض في إقامة دولة عاهرة المزاج والقيم والمشاعر الإنسانية، ولأن الحق له من يفهمه ويصدع به ويضحي من أجله، جاء الرد مُخْمِداً لثوار البدل وربطات العنق، العاشقين للتسول على أبواب المنظمات الدولية، والمدمنين على أصوات الكفوف وبهرجت الضجيج الإعلامي. خرج الشاليتي جلعاد من باطن الأسر، واحتضنه «نتنياهو» بترحاب إنتخابي مزعوم، وأسى تاريخي فقع مرارة حاخامات اليهود المتعصبين، وعلت ابتسامات النشوة بنتائج الصبر والصمود وجوه أبطال المقاومة التي سطر لنا التاريخ سيرتها ومسلكها وتضحياتها. لم تشفع ستة عقود من الزمان للمفاوض الفلسطيني أن يعرف حقيقة معركة وأسرار المفاوضات، فمن يحمل الرايات والملفات البيضاء الخاوية من عناصر القوة عليه أن يستجيب لقدره، ويُدون ما يمليه عليه الخصوم، تلك هي الحجة الدامغة التي قدمها لهم المقاومون في غزة لعل الله أن يُحدث لهم بعد ذلك أمراً. وتعودنا نحن العرب على خروقات التشكيك من بعض كتابنا ومثقفينا لأي إنجاز يتحقق خارج إطار الأسوار الميتة، لكن هذه المرة تساقطت حروفها «خَدَج» ولد من رحم إحباط وضعف وهوان، دمرها الربيع العربي قبل اكتمال نموها فقوبلت بالاستهجان وجمدت أصابع من قال ومن كتب استحياءً من لسان سبق العقل وفكر ملوث بعدم القدرة، والخافي في صفقة شاليت - كما أتوقعها - أنها عجلت بقرب نهاية السلطة الفلسطينية لأن الربيع الفلسطيني قريب الحدوث وهذه المرة لن يقود عربة الحصان من في قلبه ذرة من خوف. صفحة عربية تُطوى من فصول الربيع العربي، بعد اختتام مطاردة الزعيم من أجل الحرية، نهاية رجل غبي لم تشفع له أربعة عقود من الزمان بصلاحه وإصلاح أحوال دولته، أكلته النار الحمراء التي هدد بها شعبه إلى آخر يوم حياته، وامتد جحيمها إلى أسرته وحاشيته ومن اقتفى أثره، يا لها من نهاية مأسوية ستظل حاضرة في الأذهان إلى أمد بعيد، أعادتنا إلى أزمنة غابرة بمغامرات المغول والقرامطة. الأوطان ليست حقل تجارب، وليست مرتعاً لنظريات الأوهام وخزعبلات المصابين بجنون العظمة ومعاداة الطبيعة بالتعسف مع حركة التاريخ وعزل أمة عن رؤى المستقبل، الحكمة ضالة المتهيب من صحوة الشعب وما يخبئه المستقبل، فالناس ليسوا ضيوفاً أو مأجورين على أرضهم بل شركاء في الماء والكلأ وتقرير المصير وإدارة شؤون الدولة، وسيكتب التاريخ أن الشعب الليبي قدم ملحمةً في الصبر والكرم على زعيم كان كل يوم - خلال 40 عاماً - هو في شأن! قبض الثوار على الزعيم، فسالت دموع طلب الرحمة، نسى ما قدمت يداه، وتجاهل رحمة الحاكم بالمحكومين، فثارت ثائرة من اكتوى بظلمه وبطشه وفسوق تصرفاته، 50 ألف قتيل، وعشرات الآلاف من المشردين صورة ماثلة أمام الثوار، فكان القصاص عفوياً وتلقائياً وفوضوياً، فضاع دم العقيد بين القبائل، والخافي في نهاية القذافي لَملمةُ حقبة أديرت أحداثها وأوراقها وأساليبها بالأهواء والطلاسم وذهبت إلى غير رجعة؛ مخلفةً معايشة جيل عربي غالبيته الساحقة من الشباب لمشهد دراماتيكي استهواه وتفاعل معه وعلق عليه واستوطن عقله، ومن هنا تكمن أهمية التأمل والمراجعة ورسم خريطة تغيير حقيقية لمن يريد، ومن يملك الشجاعة وحاسة شم لا تغيب عنها شمس الحكمة والقدرة ومهارة القيادة. * كاتب سعودي. [email protected] twitter | @alyemnia