حقق رئيس الوزراء التركي نصراً أكيداً على المؤسسة العسكرية، عبر دفع قادتها الأتاتوركيين الى الاستقالة. ونقل البلاد الى مرحلة جديدة بدأت ملامحها تتضح، رغم أن الجدل ما زال يتنازل عن هدف زعيم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم الإسلامي الجذور. قد تكون مسألة ترقيات الضباط، عشية اجتماع المجلس العسكري الأعلى المولج بهذه المهمة، عجلت حسم المواجهة. لكن أردوغان كان جمّع الكثير من الأوراق الرابحة قبل الخوض في تجربة القوى هذه حالياً. لقد خرج حزب «العدالة والتنمية» منتصراً في معركة انتخابية ضمنت له غالبية نيابية حررته من إمكان التنازل للاتجاهات القومية العلمانية. ولم يتمكن حزب الشعب الجمهوري المعارض، الغطاء الشعبي للمؤسسة العسكرية، من تحسين أدائه وتمثيله النيابي، منذ أن وصل حزب «العدالة والتنمية» الى السلطة قبل تسع سنوات. وقبل الانتخابات، تمكن أردوغان من خوض معركة ناجحة ضد المؤسسة القضائية، الركيزة الثانية مع الجيش للنظام الأتاتوركي. وبالتوازي مع إبعاد القضاة الأتاتوركيين، نشأ جيل من القادة العسكريين ترقوا في ظل حكم أردوغان، ما يعني أن حزب «العدالة» بات على الصعيد التقني يملك أوراقاً رابحة داخل الإدارة القضائية والعسكرية. وهذا ما سمح له بالإصرار على محاكمات ضباط يتهمهم بالاشتراك في مؤامرة «المطرقة» الانقلابية، وإن تمسك رئيس الأركان المستقيل الجنرال إشق كوشانير بأن هذه الاتهامات لا أساس لها. وما يؤكد خضوع المؤسسة العسكرية، بعد القضائية، للمؤسسة السياسية الممثلة بحكومة أردوغان هو أن كوشانير أعلن عجزه عن الدفاع عن ضباطه، بفعل حال الارتباك الذي أصاب قيادة الأركان والضغط الذي تتعرض له من كل جانب. والحجة السياسية التي يقدمها أردوغان وحزبه لإخضاع المؤسسة العسكرية، بعد القضائية، للسلطة السياسية تتصل بمعنى الممارسة الديموقراطية، وبالملف التركي للتأهل لدخول الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار، خسرت المؤسسة العسكرية التركية حليفاً استراتيجياً مثلته الولاياتالمتحدة على امتداد الحرب الباردة. إذ أن واشنطن، خصوصاً في ظل إدارتها الحالية، تنظر بارتياح كبير الى نجاح التجربة الإسلامية التركية وتعتبرها نموذجاً في البلدان الإسلامية، من جهة. ومن جهة أخرى، تعتبر واشنطن من أشد المتحمسين لنيل تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي، وتالياً تدعم كل خطوات أردوغان المسهّلة لهذه العملية، ومنها كبح طموحات المؤسسة العسكرية التركية. هكذا، تجمعت أوراق رابحة في يدي أردوغان الذي استغل توافر ظروف ملائمة للوقوف في وجه المؤسسة العسكرية التي يعتبرها أنها شكلت على الدوام قوة سلبية في وجه إدخال تعديل أساسي على الدستور، وهو الذي يشتبه بأنه يريد نزع الطابع العلماني والمدني عن الدولة التركية. وهنا يطرح السؤال عن النيات الفعلية لأردوغان... لم يتطرق الخطاب العلني للزعيم التركي إلا الى إصلاحات وتعديلات، تطاول الدستور والقوانين، من أجل تثبيت الديموقراطية وإخضاع مؤسسات الجمهورية الى إدارة الدولة. وهي مؤسسات كسبت، خلال المرحلة الأتاتوركية استقلالية تامة، بوصفها الحامية لعلمانية الدولة وبذريعة أن أي مساس بهذه الاستقلالية يهدد هذه العلمانية. يُعتقد بأن أردوغان يراوح بين مشروعين: شخصي وإسلامي. المشروع الشخصي يصب في تحويل نظام الحكم الى جمهوري بحيث يتولى رئيس الجمهورية، بعد توسيع صلاحياته، مهمات الحكومة وقيادة الدولة، على غرار النظام الأميركي. ويشتبه كثر بأن طموح أردوغان هو الفوز بغالبية الثلثين في الانتخابات البرلمانية المقبلة فيعدل الدستور في هذا الاتجاه، ويتولى بعدها رئاسة الجمهورية، ليصبح الرئيس الثاني، بعد أتاتورك، الذي يتمتع بصلاحيات واسعة تتيح التخلص من الوطأة التاريخية لمؤسسات الدولة. لكن آخرين يشتبهون بأن هذا المسار الذي يسعى إليه أردوغان هدفه، عندما يصبح رئيساً واسع الصلاحيات، نزع الطابع العلماني عن الدولة وإعادة أسلمة قوانينها، بما يتوافق مع الحلم والجذور التي استقاها من والده الروحي «الإخواني» وزعيم حزب «الرفاه» المنحل الراحل نجم الدين أربكان.