الرجل الذي قتل معمر القذافي ارتكب جريمتين صارختين. الأولى انتهاكه المعاهدات الدولية والأعراف بشأن التعامل مع الأسرى. والثانية انه اغتال رواية مذهلة كان يمكن ان تشكلها اعترافات القذافي امام المحكمة. رواية تكشف قصة مغامرات باهظة وتهورات قاتلة ارتُكبت في عدد من القارات. كنا صغاراً حين وقعت ليبيا في قبضة حفنة من العسكريين الشبان في «الفاتح من سبتمبر» 1969. وسمعنا منذ تلك الأيام ان اسم القائد معمر القذافي واسم «الرجل الثاني» الرائد عبدالسلام جلّود. وبهذه الصفة جال جلّود حول العالم والتقى شو إن لاي وليونيد بريجنيف وجمال عبدالناصر وصدام حسين وحافظ الأسد وآخرين. قبل عقد من «الثورة» كان الطالب عبدالسلام جلّود معتقلاً لمشاركته في تظاهرة. وذات يوم أدخلوا معتقلاً آخر اسمه معمر القذافي. وبسبب نقص البطانيات في السجن تشاركا في واحدة منها وتعارفا وبدأت رحلة طويلة. بعد السجن التقى الرجلان في غابة نخيل قرب سبها وولد التنظيم المدني الذي راهن على إسقاط النظام عبر التظاهرات والاحتجاجات. وفي 1963 عسكر القذافي حلم التغيير وكتب بخط يده طلب انتساب جلّود الى الكلية الحربية. لا أحد يعرف القذافي كما يعرفه جلود. عرفه طالباً متقد الحماسة القومية واستضافه مرات كثيرة في منزل والديه. وعرفه مهندساً للمؤامرة بالثياب العسكرية ثم شاركه وخبره في مقاعد السلطة. لكن العلاقة بين الرجلين تراجعت حين راح «القائد التاريخي» يدير البلاد على هواه ويتفرّد بالقرار ما عرّض جلّود ل «إقامة جبرية» طويلة. وحصل الطلاق الواضح حين انكفأ القذافي إلى قبيلته و «جوقة العبيد والمزمرين والمطبلين». وهكذا أيد جلّود الثورة وغادر في آب (أغسطس) الماضي ليبيا بمساعدة من الثوار. وساهمت مغادرته في تعزيز الانطباع أن نظام القذافي يندفع نحو نهايته. بحثتُ عن عبدالسلام جلّود لاعتقادي ان روايته يمكن ان تسلط الضوء على قصة الرجل الذي أدمى بلاده والعالم معاً. كانت معركة سرت محتدمة. أمضيتُ معه يومي الثلثاء والأربعاء 18 و19 من الشهر الجاري. غادرتُ روما الغارقة في المطر الخميس ولدى هبوط الطائرة في لندن تلقيتُ خبر مقتل القذافي. في اليوم التالي، اتصلتُ بجلّود أسأله تعليقه على مقتل رفيقه القديم. وخشيت في الواقع أن يصرف النظر عن النشر. لكنه فاجأني بعبارة قاطعة: «هذه نهاية كل طاغية وعلى باقي المستبدين أن يتعلموا». نشرتُ هذا الكلام السبت الماضي وأرجأتُ نشر الحلقات إلى اليوم بسبب تدافع الأحداث. وهنا نص الحلقة الأولى: هل صحيح أنك ذهبت في بداية السبعينات إلى الصين بهدف شراء قنبلة نووية؟ - اعتقد أن محمد حسنين هيكل هو من كتب هذه القصة وهي غير صحيحة. ذهبت إلى الصين مقترحاً أن يكون هناك تعاون يمكننا من إنتاج سلاح نووي. الحقيقة أننا كنا شباناً وتحركنا الحماسة وغضبنا من امتلاك إسرائيل سلاحاً نووياً. التقيت في بكين رئيس الوزراء شوان لاي كما التقيت رئيس الأركان. شرح شوان لاي لي أن مثل هذا التعاون يفترض وجود قاعدة صناعية ودرجة من التطور التكنولوجي وهذا غير متوافر حالياً لدى ليبيا. أي أن موضوع الأسلحة غير منعزل عن درجة التطور العلمي والتكنولوجي. كان ذلك في عام 1970 وقد التقيت خلال الرحلة إلى بكين وللمرة الأولى ياسر عرفات. كان علي أن استقل طائرة متجهة من باكستان إلى بكين والتقينا في الطائرة. زيارة عرفات علنية ورسمية وزيارتي سرية. في مطار بكين كانت تنتظره وسائل الإعلام أما أنا فكنت حريصاً على ألا يعرف أحد بوجودي أو مهمتي. لهذا سارعت إلى مغادرة الطائرة مبتعداً عن عيون المستقبلين والإعلاميين. كنت نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة؟ - لم يكن هناك منصب نائب الرئيس لكنني كنت الثاني في الترتيب بعد معمر. لماذا كنتم تريدون قنبلة نووية؟ لحل النزاع مع إسرائيل دفعة واحدة؟ - كنا شباناً ومتحمسين ونعتقد أن العرب يجب أن يمتلكوا قدرة على الردع في مواجهة الترسانة الإسرائيلية. هل كنتم ستلقون القنبلة على إسرائيل لو كانت في حوزتكم؟ - لا. استخدام السلاح النووي ليس أمراً بسيطاً. أريد هنا أن أشير إلى شيء قمنا به وهو تكريس قومية العمل الفدائي. دربنا الكثير من الفدائيين العرب. من سورية والعراق وتونس وغيرها. حاولنا لاحقاً إرسال من تدربوا إلى مصر وسورية فكان الرد بالرفض. وما السبب؟ - اعتبرت الدولتان أن وجود الفدائيين يزج البلد الذين يقيمون فيه في معركة. وذهبت أيضاً إلى موسكو لشراء السلاح السوفياتي؟ - ذهبت قبل ذلك إلى فرنسا لشراء طائرات من طراز «ميراج». التقيت في باريس رئيس الوزراء ووزير الدفاع ميشال دوبريه. قبل الذهاب إلى باريس قمت برحلة توقفت فيها في القاهرة في الطريق إلى الخرطوم. وكانت المرة الأولى التي التقي فيها الرئيس عبدالناصر. طبعاً كان عبدالناصر زعيماً كبيراً وكان مثالاً بالنسبة لنا ولا يزال بالنسبة لي. وكنت اعتقد أنني حين أصل إلى مقره سأشاهد الحراسات والمراسم وأنني سأنتظر في مكتب جانبي قبل الدخول للسلام عليه. وفوجئت بأنهم أخذوني من المطار إلى منزله وفوجئت به واقفاً عند باب السيارة التي أقلتني. واحتضنني بحرارة إلى درجة أن قبعتي العسكرية وقعت. سألت عبدالناصر: «إلى ماذا نحتاج كي نحرر فلسطين؟». فأجاب: «إننا نحتاج إلى طائرة قاذفة مقاتلة والسوفيات ليس لديهم ذلك». شرحت وجهة نظري وهي أن التوازن مع العدو لا يقوم على توازن بين دبابة وصاروخ بل هو قبل ذلك توازن على الصعيد الإنساني والاجتماعي وأن تحرير الإنسان العربي هو الأساس في التوازن. طلبت منه خبراء وأطلعته على أنني سأزور فرنسا لشراء طائرات من طراز «ميراج». ابتسم عبدالناصر وقال لي: «انتم أولاد صغار ما تفهموش. الميراج لا يمكن أن تكون في الوقت نفسه عند إسرائيل وعندنا». وكرر انتم أولاد صغار ماتفهموش بالسياسة. قلت له: «مع ذلك نحن سنحاول». الحقيقة أن زيارة فرنسا كانت ناجحة وشملت الصفقة 110 طائرات ميراج. بعدها التقيت عبدالناصر وسألته رأيه في الصفقة فأجاب ضاحكا: «أنتو بتذلّوني بقى». هل صحيح أن القذافي غضب في 1973 لأنه لم يكن على علم بموعد الحرب مع إسرائيل؟ - لا. كان حديث الحرب مفتوحاً في إطار اتحاد الجمهوريات العربية الذي ضم مصر وسورية وليبيا. أنا في الحقيقة كنت أشارك في لقاءات القادة حتى حين كانت تقتصر عليهم فقط. كان معمر يحرص على إشراكي في اللقاءات حتى ولو طلب الرؤساء الآخرون من نوابهم الخروج من قاعة الاجتماع أو عدم المشاركة. في احد اجتماعات مجلس الرئاسة تقدمنا نحن بخطة عسكرية لتحرير الأراضي المحتلة في 1967 وحتى فلسطين. وتقول الخطة أن تكون جبهة سيناء جبهة تثبيت لاستدراج اكبر قوة لدى العدو على أن يكون الهجوم الرئيسي من سورية والأردن وبحيث تدور المعارك على الأرض الفلسطينيةالمحتلة في 1948 مع الإفادة من البحر. علق السادات: «يا معمر وعبدالسلام جرى إيه. نحن نعرف إنكما تعرفان بالثورة لكن الخطة التي نتحدث عنها نحن أعدتها أكاديمية ناصر». رفضوا خطتنا على أساس أننا نفهم بالثورة لا بالعسكر وأن خطتهم كانت من صنع جنرالات محترفين. وكان ردنا: «سميتم حرب 1967 نكسة. إذا طبقتم خطتكم ابحثوا عن اسم جديد لتغطية النتائج. نحن لا نريد المشاركة في ادعاء النصر لكننا لا نريد أيضاً أن نكون شركاء في الهزيمة. ما تريدونه مالياً من ليبيا سنقدمه لكننا لن نشترك في القرار ولا في ادعاء النصر ولا في الهزيمة». كيف كانت علاقة القذافي مع الرئيس حافظ الأسد؟ - كانت علاقة عادية وفيها نوع من الاحترام. نحن كنا متحمسين ولم نكن موافقين على تعبير الصمود ونعتبره موقفاً سلبياً. كنا نريد صموداً إيجابياً ومتحركا. كانت هذه نقطة خلاف. وذهبت أيضاً لشراء السلاح من موسكو؟ - نعم. التقيت ليونيد بريجنيف والكسي كوسيغين وبودغورني ومسؤولين في وزارة الدفاع. طلبنا أسلحة فوافقوا ولم يضعوا أي شروط. في اللقاء مع بريجنيف كان السفير المصري حاضراً. وفوجئ أنني استخدمت لهجة قوية في القول إن الاتحاد السوفياتي لا يتخذ موقفاً قوياً بما يكفي في دعم العرب والفلسطينيين. بعد خروجنا قال لي السفير المصري إن الوضع الاقتصادي صعب في مصر وإن عبدالناصر لا يستطيع أن يقول لبريجنيف ما قلته أنا له. كيف كانت العلاقة مع صدام حسين؟ - أنا كنت مختلفاً معه منذ البداية عقليته لم تعجني. لماذا؟ - عقليته طاووسية وتتسم بالعنجهية. عقلية ديكتاتور بكل ما للكلمة من معنى. وهو غير مثقف. حافظ الأسد كان مختلفاً. وكذلك هواري بومدين. صدام يعطي انطباعاً أنه قبضاي. عقلياتنا مختلفة. لم يحصل انسجام معه؟ - زرته بعد إعلان الحرب على إيران. دخلت فوجدته مرتدياً بزة عسكرية وبرتبة فريق. حاول أن يدخلني إلى غرفة العمليات وكان مبتهجاً لأن الجيش العراقي تقدم بضعة كيلومترات في الأراضي الإيرانية. قلت له: «لن أدخل غرفة العمليات والموضوع ليس عسكرياً. لا أنت عسكري ولا أنا عسكري فلنتكلم في السياسة. إذا كنت تعتقد أن جيش الشاه دمر وأن إيران في موقع ضعيف يجب أن تعرف أنك ستواجه سبعين مليون ثوروي إسلامي وهؤلاء أخطر من جيش الشاه». بماذا أجاب؟ - رفض. نحن اتخذنا موقفاً مؤيداً لإيران. وزودتم إيران صواريخ أرض – أرض؟ - نعم. ومجاناً؟ - نعم. سورية وقفت معنوياً مع إيران. ليبيا وقفت معها سياسياً ومعنوياً ومادياً. الأميركيون قالوا إن ليبيا بموقفها أفسدت محاولتنا جعل الحرب فارسية – عربية. من أين اشتريتم السلاح للإيرانيين؟ - من دول شرقية عديدة. ويدفعون ثمنه؟ - طبعاً. نحن أعطيناهم الصواريخ بلا مقابل. حصل خلاف في موضوع الصواريخ. معمر كان متردداً. قال لي: «كيف ستضرب صواريخنا مدينة عربية؟». أنا كنت متحمساً واقتنع. من أي طراز كانت؟ - صواريخ سكود روسية مداها 280 كيلومتراً. وهل مسموح أن تنقلوا هذه الأسلحة إلى طرف ثالث؟ - لم تكن اتفاقاتنا مع السوفيات مرفقة بشروط. زرت إيران بعد أيام من عودة الإمام الخميني إليها كيف كانت هذه الزيارة؟ - لا أبالغ إن قلت إنها كانت أهم زيارة في حياتي. تعلمت كثيراً منها واعتبرتها دورة تنشيطية لتفكيري الثوري. وكان اللقاء مع الإمام الخميني دافئاً وحميماً. هل كنتم على علاقة بالخميني قبل عودته؟ - حين ضغط شاه إيران محمد رضا بهلوي على صدام حسين لإخراج الخميني من العراق أرسلنا إلى الخميني وأبلغناه استعداد ليبيا لاستقباله وإعطائه إذاعة لدعم تحركه. وكان رده: من سيسمعني هناك؟. وأوضح أنه يريد المغادرة إلى مكان في الغرب يكون له ثقل إعلامي. وشكرنا على مبادرتنا. حين توجه الخميني إلى فرنسا أرسلنا إبراهيم البشاري وسعد مجبر ولازماه هناك كحلقة اتصال معنا ورافقاه في رحلة عودته إلى طهران. اعتقد أنني توجهت إلى طهران في اليوم الرابع بعد عودته. اتصل قائد الطائرة بالمطار فمنعونا من الهبوط لأنني لست مدعواً من قبل الحكومة. اضطروا إلى القبول بهبوط الطائرة بعدما شارف وقودها على النفاد. بقيت في المطار نحو خمس ساعات. أنا ذاهب لزيارة الثورة والحكومة تقول إنني غير مدعو. بعدها جاءت أعداد غفيرة من رجال الثورة يتقدمها محمد منتظري وحسن الخميني. تلقى صادق طباطبائي صفعة على وجهه ونزلنا في موكب مهيب إلى طهران. ولدى وصولي إلى الفندق استقبلني الصحافي والديبلوماسي الفرنسي أريك رولو بسؤال فأجبته «هذه ليست ثورة إيرانية. هذه ثورة الإسلام وثورة حضارة الشرق ضد الغرب. في اليوم التالي توجهت إلى المكان الذي كانت تشغله السفارة الإسرائيلية فوجدت ملايين الإيرانيين يواصلون الاحتفال برفع العلم الفلسطيني على المكان وكان بعضهم يقبل العلم ويبكي. واللقاء مع الخميني؟ - كان ودياً. والحقيقة أنني كنت شاباً ومتحمساً وأثرت نقطة ربما لم تكن ضرورية في ذلك الوقت بالذات. قلت له يا سماحة الإمام كيف تسمون الخليج العربي الخليج الفارس. رد قائلاً أنتم تقيمون على ضفة منه ونحن نقيم على الأخرى. وهو يفترض أن يكون خليجاً إسلامياً. إننا نتناقش الآن على موضوع ليس لنا. الخليج حالياً أميركي فلنحرره أولاً ثم نبحث في التسمية. وتطرقنا إلى التعاون بين الثورتين الإيرانية والليبية واقترحت أن تكون هناك قيادة للثورة الإسلامية على المستوى العالمي. لم تحصل متابعة لهذه المقترحات. زرت قم وأبلغني علي خامنئي وهاشمي رفسنجاني أنهما كانا يحتفلان في السجن بذكرى ثورة الفاتح فقد كان لدينا إذاعة بالفارسية. هل تطرق الخميني إلى موضوع اختفاء رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان الإمام موسى الصدر أثناء زيارته ليبيا في صيف 1978؟ - نعم. تمنى صدور توضيح حول ملابسات هذه المسألة وكي لا تكون هناك أي عقبة أمام التعاون بين الثورتين. خلال وجودي في الفندق نظمت تظاهرة أمامه ضمت 37 شخصاً بقيادة شقيقة الصدر وزوجها وأطلقوا هتافات لكن عناصر الأمن التابعين للثورة سارعوا إلى إبعادهم وتفريقهم. هل تحول عدم صدور التوضيح إلى عقبة لاحقاً؟ - لا. وكما قلت لك سابقاً اعطينا إيران صواريخ ولعبنا دوراً أساسياً في حصولها على أسلحة. يجب أن أشير هنا إلى أننا في ليبيا ساهمنا في إسقاط طاغيتين هما شاه إيران وأمبراطور الحبشة هيلاسيلاسي. قدمنا ما نستطيع تقديمه. في 1975 صافحت شاه إيران في الجزائر فقال لي: أكرهكم لكنني أحترمكم. وكان رئيس الوزراء الباكستاني الراحل علي بوتو يقول لنا إن شاه إيران يطلب منكم وقف القنابل وكنا نجيبه هذه قنابل إيرانية. ماذا تعرف عن قضية اختفاء الإمام الصدر؟ - اجتمعت به مرة واحدة في منتصف السبعينات في لبنان. لم أكن أصلاً على علم بزيارته. حين عرفت باختفائه تألمت كثيرًا لسببين الأول يتعلق بشخصه وما يمثله والثاني لأنني اعتبرت الفعل خسيساً إذ ليس من عادات العربي أن يدعو أحداً إلى بيته أو بلده ثم يوقع به. لا الأخلاق العربية تقبل ولا القيم الإسلامية. كانت القصة غريبة وفرض عليها تعتيم شديد. الم تسأل القذافي عن موضوع اختفاء الصدر؟ - لمحت مرة إلى الموضوع فاكتفى بالقول سائلاً:»اتتهمني؟». وتوقف الحديث. قيل إن مشادة كلامية حصلت بين الاثنين؟ - لا أعرف التفاصيل. لكنني سمعت قبل سنوات أن ضابط الشرطة الذي انتحل شخصية الصدر وزار ليبيا بجواز سفره بعد اختفائه وضع له معمر حراسة مشددة خوفاً من اختطافه بعدما بدأ الحديث عن دوره هذا. هل تقديرك أن الصدر قتل ودفن؟ - عقلي يقول لي هذا. يستحيل أن يكون مخفياً حتى الآن. طبعاً أنا كنت سمعت من القذافي قبل الحادثة ما يعبر عن انزعاجه من قيام إيران بإرسال رجال دين ليصبح لديهم نفوذ لدى الشيعة العرب. الحقيقة لم أكن أتصور أن يصل الأمر إلى هذه الدرجة. القذافي كان إذاً متردداً في موضوع الصواريخ؟ - نعم. كان متردداً في موضوع آخر وهو تسليح جون قرنق زعيم الجيش الشعبي لتحرير السودان. كان يعتقد أن تسليح قرنق يمكن أن يؤدي إلى انفصال السودان. اجتمعت بقرنق وأقنعني أنه وحدوي وأنه يقاتل لرفع الظلم اللاحق بالجنوب والبلاد بأسرها. وقال لي : أنا لن أسقط جعفر النميري بل سأعمل على استنزافه وحين يحصل ذلك ستبادر القوى المعارضة في الشمال إلى الانقضاض على نظامه. أحضرت قرنق إلى السودان في الثمانينات وسجلنا معه حديثاً تلفزيونياً يقول فيه إنه متمسك بوحدة السودان وإنه يعمل من أجل قيام دولة عادلة تحترم حقوق مواطنيها. وهكذا بدأنا مساعدة قرنق. وأذكر في تلك الفترة أنني لعبت دوراً بارزاً في التوصل إلى اتفاق عدن. حدثنا عن هذا الاتفاق؟ - إنه اتفاق بين ليبيا وأثيوبيا واليمن الديموقراطي (الجنوبي). ربطتني علاقة حميمة بالرئيس الأثيوبي السابق منغيستو هايلي مريم. إنه رجل ودود وثقافته الماركسية رائعة ومن الطراز الأول. الشريك الآخر في الاتفاق كان الرئيس علي ناصر محمد وكانت لي علاقة معه لكنني اتخذت موقفاً منه حين قام بتفجير القيادة ما أدى إلى مقتل عدد من زملائه. الواقع كانت لي علاقات واسعة بزملائه علي سالم البيض وعلي عنتر وغيرهما. ماذا كان الغرض من اتفاق عدن؟ - إقامة تحالف ثوري بين الدول الثلاث وتشكيل جيش قواه البشرية من أثيوبيا وتقدم ليبيا الدعم المالي والتسليح ويكون الطرف اليمني جزءاً من هذا البرنامج. أذكر أن منغيستو نظر إلي وقال: لو تحقق ما نتحدث عنه سيكون المد التقدمي ممتداً من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط. أنا أعددت الاتفاق ثم ذهب الطاغية ووقعه. بعد تجهيز الاتفاق صعدت ومنغيستو في طائرتين قادرتين على الهبوط في أماكن عادية وزرنا قرنق في موقع في جنوب السودان. وجدنا في المعسكر أكثر من 18 ألف متطوع وقد سلحناهم نحن. كان الترحيب بنا حماسياً وكانوا ينشدون القذافي أعطانا السلاح ونحن جئنا إلى الغابة استعداداً لإسقاط نميري. ألقيت خطاباً باللغة العربية وألقى منغيستو كلمة. بعدها قال لي كيف تكلم الأفارقة بالعربية فأجبته أن القومية العربية لا تستند إلى العرق إنها قومية ثقافية وحضارية وتنصهر فيها كل الانتماءات. في المفهوم الديني سكان الجنوب من المسيحيين لكن بالمفهوم الثقافي هم عرب. لم يعش اتفاق عدن طويلاً. أين كان السوفيات؟ - نعم لم يعش طويلاً. أما عن الاتحاد السوفياتي فقد كان ضعيفاً في تلك الفترة. لا أبالغ إذا قلت إن ليبيا كانت تلعب دوراً محورياً في ما يتعلق باليسار وحركات التحرر في العالم. في السودان حصلت انتفاضة وزحف الناس في اتجاه القصر. كان النميري في أميركا وكان القائد العسكري العام عبد الرحمن سوار الذهب الذي أقسم للنميري على القرآن أن لا يخونه. عندما زحفت الناس اجتمعت القيادة العسكرية وقررت عدم إطلاق النار على الناس. أحرج سوار الذهب وهو صوفي وراح يدور على عدد من الزوايا الصوفية يبحث عن فتوى مضمونها أنه لم يخن النميري. حين سقط النميري اتصلنا بمنغيستو وقلنا له إن الهدف قد تحقق. رد بالقول إن الهدف لم يتحقق كاملاً وإن أميركا تدفع بقوى رجعية بينها الصادق المهدي للالتفاف على الثورة وهكذا اختلفنا معه. أرجع إلى القذافي. هل كان يكره صدام؟ - كان من الصعب قيام علاقة بينهما حتى ولو كانا في النهاية من عقلية الاستبداد نفسها. مواصفات الرجلين لا تسهل قيام علاقة بينهما. الحقيقة أن معمر لم يرتح إلى صدام منذ البداية. الحقيقة أن تصرف كل منهما مقزز. أنظر ماذا فعل صدام بالعراق وماذا فعل الطاغية بليبيا. القذافي وصدام كلاهما حاول أن يكون كاتباً؟ - لا مجال للمقارنة فالقذافي قرأ أكثر من صدام. كلاهما قاس. القذافي طاغية من الطراز الأول وفرض على الليبيين النفاق بالقوة. الليبيون جائعون ويقولون الحمد لله نحن شبعى بالقوة. لماذا ساعد القذافي الأكراد في العراق؟ - لديه نظرية مفادها أن تجاهل المشكلة ليس حلاً وأن الأكراد كلما أحسوا بدورهم لعبوا دوراً أكبر ضمن أمتهم العربية والإسلامية واعتبر أن البديل بالنسبة اليهم سيكون الوقوع في يد الصهيونية. هذا ما قاله لكن لا أعرف إن كانت له أغراض أخرى. ما سر العلاقة بين القذافي والجزائر؟ - تألمت جداً من موقف الجزائر. عندما أممت الجزائر النفط جاء عبدالعزيز بوتفليقة موفداً من الرئيس هواري بومدين طالباً تأييدنا وكان وزير الخارجية.اجتمع بي ولم يقابل القذافي وقلت له: أكتب البيان الذي تريده ونحن نوقع عليه. فكتب بياناً ضعيفاً لم يعجبني فمزقته وكتبت أنا بياناً قلت فيه إن النفط الليبي هو النفط الجزائري ولا يمكن للنفط الليبي أن يكون بديلاً للنفط الجزائري وأن احتياطات ليبيا من العملة الصعبة تحت تصرف الجزائر فدمعت عينا بوتفليقة وعانقني. أنا تألمت من موقف الجزائر فهو غير مفهوم حقيقة. يمكن أن يكون السبب أن نظام الجزائر لا يحتمل ثورتين على حدوده. النقطة الثانية إن ما آلمني أنه في أول لقاء بيني وبين أحمد بن بلة ومعمر في سرت قال بن بلة لمعمر أنت محظوظ فأنا وعبدالناصر كان معنا أناس يشدون بنا إلى الوراء بينما أنت معك شخص يدفعك إلى الأمام. ومع ذلك أنا عاتب على بن بلة ففي الوقت الذي كان الطاغية يقمع الليبيين ويمثّل بهم أقنعه أن يكون على رأس «جائزة القذافي لحقوق الإنسان» وكان هذا مؤلماً لي ولكل الليبيين. قرار الوقوف في الحرب في 1954 مع الجزائر ضد فرنسا كان قرار الشعب الليبي وليس قرار الملك وحتى الأسلحة التي كانت ترد من مصر كانت تمر عبر الليبيين وأنا كنت رئيس لجنة مهمتها جمع المساعدات. المكان الوحيد الذي شعر فيه المجلس الوطني للثورة الجزائرية بالأمان كان ليبيا، لا تونس ولا المغرب، لسببين: فلا تأثير سياسياً عليهم فهم كانوا أحراراً في قراراتهم ولأنهم شعروا بالأمان لناحية الأمن الشخصي. الحقيقة أنني كنت قبل ذلك تلقيت اتصالاً من شخص كان مهماً في الثورة الجزائرية وهو مقرب من السلطات هناك ولن أذكر اسمه وقال لي إن السلطات الجزائرية مستعدة لإرسال «كوماندوس» لإخراجي من ليبيا فقلت له: أنا أفضّل أن أموت في ليبيا على أن تخرجني الجزائر وهي تقف مع الطاغية وتأخذ هذا الموقف. (غداً الحلقة الثانية)