بدأت كل عمليات التدخل الغربي، من أفغانستان الى العراق، بدايةً جيدة على نحو مريب، حيث كان تغيير النظام هو الجزء الأسهل، ولم تبدأ المشكلات إلاّ بعد ذلك، وربما هذا ما سيحصل في ليبيا. سيعود الى طرابلس المسلحون الذين كانوا يقاتلون في سرت، وسيحتكّون بالميليشيات المسلحة تسليحاً ثقيلاً التي تسيطر على الشوارع، وهؤلاء الجنود الذين كان بينهم أصحاب متاجر أو عاطلون من العمل قبل الثورة، لا يشبهون من أي وجه جيشاً موحداً. ويسيطر على الساحة الرئيسة في طرابلس الآن بربر من الجبال الغربية، فيما يتحكم متمردو مصراتة - الذين يشكلون القوة التي تريد الفوز برصيد قتلها القذافي- بالمرفأ، وتدير المطار مجموعة ثالثة من المتمردين. كل هذه الميليشيات، المسلحة تسليحاً ثقيلاً، والمنتشية بانتصاراتها، والتي حددت مناطق نفوذها، تمثِّل مناطق مختلفة، وفي بعض الحالات تنتمي الى أيديولوجيات متنافسة. وقد بدأت بالفعل عراكاتُ شوارع تندلع عفوياً في طرابلس، وثمة خطر حقيقي من ان تتحول هذه المشكلات الى معارك بمرور الوقت. موقف هذه المجموعات المسلحة من عبد الجليل، القاضي السابق النبيه والمتعلم، يصل الى حدود العداء، وأبلغتني مصادر ثقة أن بعض المتمردين أوضح أنه لن يستمر طويلاً في العمل تحت قيادته. المطروح على المحك هو إرث القذافي، وفوق كل شيء مئة بليون جنيه إسترليني (نحو 160 بليون دولار) من ثروة ليبيا السيادية، والتي تعامَلَ سيف القذافي معها لردح طويل من الزمن على انها حساب مصرفي شخصي، هو الذي كان المصرفيون والسياسيون الغربيون يدلّلونه ويُبْدُون الخضوع له طمعاً بجزء من هذه الثروة. من سيتحكم بهذه الأموال الآن؟ من سيستحوذ على مقرات الاقامة الحضرية والريفية الفخمة التي كانت تعيش فيها عائلة القذافي الكبيرة؟ من سيدير احتكارات الدولة ويتمتع بالنصيب المجزي من السمسرة عن القروض الحكومية؟ من سيشكل النخبة السياسية الجديدة؟ كان يمكن ترك الأسئلة هذه من دون جواب أثناء حرب التحرير التي خيضت عندما كان قادة الميليشيات الكبيرة بعيدين على الجبهات، وكان المتمردون متحدين بفضل قضية كبيرة، هي تدمير أسوأ وأعنف زعيم عربي بعد صدام حسين. تغير ذلك الآن، وكان المجلس الانتقالي تعهد منذ زمن بعيد ان يكون سقوط سرت اللحظةَ التي ستشهد التحول الرسمي في الثورة وإعلان الحكومة الانتقالية. ووفقاً لبرنامج عبد الجليل، ستمهِّد الحكومة الانتقالية الطريق امام الانتخابات في غضون ثمانية اشهر، ويبدو ذلك أمراً واعداً على الورق، بيد أن كل شيء يمكن ان يظهر أكثر تعقيداً بكثير عند الممارسة. فالمشكلات التي تواجه الادارة الجديدة ضخمة، وقد أُخليت ثكن القذافي من الاسلحة التي باتت متاحة في السوق السوداء بأسعار متدنية جداً، بحيث انخفض سعر بندقية الكلاشنيكوف من أربعة آلاف دولار الى 800 في الأشهر القليلة الماضية. ويبدي قائد الجيش الجديد سليمان محمود، الذي كان يتولى قيادة منطقة طبرق العسكرية في نظام القذافي، قلقاً حيال انتشار الأسلحة في الشوارع، ويدرس الأساليب الكفيلة بنزع أسلحة الميليشيات، ويقضي احد هذه الأساليب بشراء الأسلحة، وهي خطة فشلت في أفغانستان بعد سقوط «طالبان». أما الأسلوب الثاني، فيقوم على ضمان عودة المسلحين الى الحياة المدنية وبدء اعمال جديدة، ويمكن استيعاب بعضهم في الجيش الوطني الجديد. لكن كل هذه الحلول صعب جداً، وما يدعو إلى القلق أن محمود لا يتمتع بالشرعية التي يتمتع بها قادة الميليشيات. ولا تقتصر المشكلة هذه على ليبيا، فالأسلحة التي كدسها القذافي تتدفق الى البلدان المجاورة عبر الحدود الليبية التي تسودها الفوضى، وهو ما يشكل تهديداً لمنطقة تعاني انعدام الاستقرار نتيجة الثورات الشعبية وصعود تنظيم «القاعدة» في بلدان المغرب. بيد ان الكابوس الأكبر يتعلق بصواريخ القذافي المضادة للطائرات، ويُعتقد بأن الزعيم الليبي السابق خزّن نحو عشرين ألف صاروخ محمول على الكتف. وفي وسع كل واحد من هذه الاسلحة، الصغيرة نسبياً، ان يُسقط طائرة تجارية، وقد استخدمت أسلحة مماثلة في هجمات على 40 طائرة في العقود الأربعة الماضية، ما تسبب في سقوط أكثر من 800 قتيل. ومن الملحّ جلب القوى الموالية للقذافي الى الحكومة الانتقالية الجديدة، وإذا جرى إقصاء القبائل المؤيدة للقذافي أو تهميشها، وهي المالكة كميات كبيرة من الاسلحة، فيمكنها مواصلة حرب العصابات، وهي قادرة مع الجماعات الارهابية العاملة في المنطقة، خصوصاً في الصحراء الليبية الجنوبية الشاسعة، على تشكيل تحالف قاتل. ويعي قادة المجلس الانتقالي ذلك، وهم مصممون على ضم الجميع، باستثناء العناصر الأكثر إجراماً من بين مؤيدي القذافي. ولكن تبرز على المستوى الميداني اشارات مقلقة، منها تقارير عن موجة من عمليات القتل بغرض الانتقام في الايام القليلة الماضية. * صحافي، عن «ذا تليغراف» البريطانية، 20/10/2011، إعداد حسام عيتاني