تحب الشاعرة العُمانية فتحية الصقري عزلتها، وتربيها بوعي كبير، كما يفعل الفلاسفة تماماً، يعنيها الوجود الإنساني كثيراً، لا نبالغ إذا قلنا إنها من الأصوات الشعرية النسوية العُمانية القادمة بثبات، نصها متجدد ويجيد المغامرة، مثل زهرة تنبت بين شقوق الأسفلت، وتهب النص حياة تدوم طويلاً. صدر للصقري «نجمة في الظل» 2011، و«قلب لا يصلح للحرب» 2014 عن دار الانتشار، و«أعيادي السرية» عن دار مسعى للنشر والتوزيع 2014. «الحياة» التقتها، فكان هذا الحوار عن ديوانها ومواضيع أخرى. في ديوانك «أعيادي السرّية» تبدو العناوين شاهقة عن أرض النص، فهي لا تخلق فضاءات بعيدة المنال ولا تترك فرصة لارتطام المتلقي وتمريغه بتراب الدهشة، لم كل هذا الشطح في عنوانك؟ - العنوان وأنت داخل بلد ما قد يقودك إلى منزل أو إلى شارع، وقد يقودك إلى مكان مهجور لتبدأ رحلتك الاستكشافية بروح مغامرة، للبحث عن ماهية الأشياء اللامرئية التي تحيط بك، وهنا بالتحديد لن تحتاج إلى أحد، ليشرح لك أو يوصلك بالضبط إلى المعنى الذي تريد أن تصل إليه. ما يحدث معي أنني أقف في تلك المنطقة الخاصة بالضياع بلا زمن محدد، أختار أسماء لأفراد عائلتي التي عليّ أن أفهم جيداً طبيعة كل فرد فيها، على رغم أنني أفسر العائلة دائماً على النحو الآتي: كيف تربي نواياك الخفية للانتحار؟ هي محاولات لفكّ أحجية قديمة عملية الخلق والوجود ومأساة الحضور النظيف جداً والمثالي، والمكابدات اليومية لشقّ طريق وعر وضبابي، ثم في نهاية المطاف تطويق حذر للإشاعة إما خلوداً وإما تلاشياً ماحقاً. نصوص المرأة في شكل عام ذات منهج وصفي وتشتغل على العويل، كما لو أنها تكسر يد الكلمات حتى تنزف في جسد القصيدة.. ألم تفكري في ذاتك، في ابنة الألفية الجديدة التي اقترفت المدى الإلكتروني، ونأت بنفسها عن الوأد الذكوري؟ - الأصوات الحادة والقلقة يمكنها تحطيم واجهة زجاجية، أفليس من الممكن في هذه الحال أن يصاب المنعزل بجروح؟ ربما قد يشفى منها تماماً، إن تدرب على تطوير أدواته وإعادة تشكليها بين فترة وأخرى، وتحويل الصرخة إلى عمل فني غني ومتدفق بتمهّل عذب من أقاصي روحه، وقد تظل معه للأبد، إن لم تقلقه فكرة الاستقرار، وإن أحاط نفسه بحراس يصفقون بحماسة، ويطلقون مسميات مختلفة للأشياء مثلاً: النباح: زقزقة، الطنين: فراشة ملونة، العويل: قطعة فنية تابعة للحب، البارانويا: زهرة أوركيد، وهذا بالنسبة إلى الاثنين الكاتب والكاتبة. الفضاءات الإلكترونية فتحت الباب على مصراعيه لكل الأصوات بألوانها وأشكالها المختلفة، ولا أفضّل الفصل، وأتحدث عن الكاتبة بمعزل عن الكاتب أو العكس، فالاثنان يعبّران عن الوجود الإنساني بتقلباته أفراحه وأحزانه، لكن بكل تأكيد هناك من يقدم لك وجبات معرفية جيدة كغذاء لروحك، وهناك من يسممها، ويعمل بشكل متطرف لطمس هويتها، ومن قلب ذاتك دائماً تبدأ رحلتك المعرفية للكون. مع أن حضورك الإلكتروني مميز ولديك جمهور يحتفي بومضاتك الشعرية على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أنك تصرين على النصوص الطويلة كما لو أنك في مهرجان، فهل القصيدة احتفالك الأبدي؟ أم التفكير بسعة النص أكثر من ضيقه هو أحد معاييرك في الكتابة؟ - لم أخطط لهذا لكن يحدث بالصدفة، أحياناً كمن يتوهم باكتمال شيء ما، ليقول إن لديه أصدقاء وعائلة مهتمين بتقلبات صوته وأخبار اكتئابه، أو كمن يودّ اقتناص فرصة وجود نافذة مفتوحة تشرح له باستمرار لعبة الحضور الحي بلا أقنعة أو ملامح مستعارة، ليجرب استخدام صوته على الهواء مباشرة في أماكن مفتوحة للجميع، ربما أشبه أيضاً ذلك الريفيّ النزق الذي أسرته الفضاءات الحرة، فاندفع راقصاً في الساحة بلا حذر أو توقعات سيئة. القصيدة هكذا كما أتصورها دائماً: حرة متمردة غير منقادة لسلطة أو أحكام تعيش في الزمن الذي خلقت فيه، غير ملتزمة بشروط إيقاعات سابقة، لا أتدخل في حياتها، كلّ ما أفعله أنني أدخل بعد أن تفتح لي الباب، لأنتظر مشهداً جديداً يصور حال صوتي الخارج من ذلك العمق الغامض المليء بالأسرار. كائنات شريرة النص الذاتي لا ينتهي هل هذا سبب لغياب النص المناسباتي أو الإخواني لديك؟ - لم أجرب وضع النص تحت السلطة حتى أختار له شكلاً معيناً، كما لم أجرب اختيار وقت خاص لمناسبة معينة مثلاً لأقول عنها شيئاً، كل شي يحدث من دون تخطيط أو تحديد مسبق. عملية التخطيط لشيء ما لا تستهويني، وأشعر أنه نوع من أنواع البلادة، شيء يشبه الخط المستقيم الذي لا أحبه. بإمكاني الخروج في نزهة أو زيارة مكان ما عندما أرغب في ذلك، لا أحذر أفعالي، ولا أجبرها على التنازل عن طبيعتها لمصلحة رؤية مستهلكة. تقولين «هل للحياة معنى آخر»؟ ماذا وراء حياتك من ألم يا فتحية؟ - قدما حياتي اصطناعيتان خسرتهما في إحدى المعارك الضارية التي دخلتها عنوة، لم أفرح فرحاً حقيقياً، كان السقف منخفضاً جداً، لدرجة أني كلما نهضت يرتطم رأسي وينشق. ماذا يخرج منه؟ - كائنات شريرة، تحضرني بقوة مرة أخرى، الآن قصة ساهل فرزان في فيلم «موسم الكركدن» للمخرج بهمن قبادي إلى حدّ ما هناك تشابه، كيف أخرجوه عنوة من حقول الحياة الجميلة؟ وكيف فقد شغفه للحياة بعد خروجه، تماماً كالخارج دائماً من صدمة كبرى.. الوجود ألم، ألم بالغ الشراسة، وها أنا لا أملك شيئاً غير الدخول في معارك خاسرة: معركة السير اليومي فوق سطح زجاجي رقيق، معركة التحولات السريعة وطي الصفحات، معركة البحث عن الأشياء المفقودة والغائبة، معركة التنافس الحي بين الحضور والغياب بين الوعي واللا وعي. «ها أنت ثانية» وفي نص آخر «أنت هنا»، وهكذا من الضمير المنفصل إلى المتصل، تبدو لغتك ناعمة وهامسة باتجاه امرأة أخرى... هل مللت الرجل؟ أو أن عوالمك النسوية ما زالت مفخخة وقابلة للانفجار والتشظي في منطقة الكتابة؟ - في الكتابة ألتقي بكلّ النساء اللواتي يعشن في، أتناول قصصهن واحدة واحدة، نتبادل البكاء والضحك والقسوة والحنان والحب والكره والغيرة، أتعرف على ماهية الصوت الذي أمسك به، في الإنصات العميق أحياناً تكون هناك حاجة ملحّة إلى اكتشاف شيء ما / حياة، قلب، صديق، حب، رجل، امرأة، وطن... الراكد يزعجني، ولا أمنع قلقي من النمو، أحاور وجوه الذات المتعددة، وأنصت لوقع انفلات الأصوات في العتمة، ومن ثم أتبع الوهج لأعرف مكان النار. العزلة والفضاءات الحرة أسئلتك شاقة ولو خلت القصيدة من سؤال فإنها لا تخلو من القلق.. ألهذه الدرجة يأخذك النص لعزلته كما لو أنك مختبر نفسي لكائنات لغوية؟ - علاقة الأسئلة بالقلق في حياتي تشبه علاقة الماء بالأشجار، تشبه علاقة الشرر بالاحتكاك، هناك أسئلة، هناك قلق، هناك مغامرة، هناك اكتشاف، وجوه النص كثيرة ومتعددة، ربما تراه متسامحاً، وربما تراه شرساً، شريراً أحياناً وطيباً أحياناً أخرى، وفي كثير من الأحيان عندما نلتقي يأخذني من عزلتي لفضاءاته الحرة، ربما نقضي وقتاً جميلاً وممتعاً معاً، وربما نتخاصم لأسباب غير واضحة، وشغف اكتشاف العالمين نتبادله بكثير من المتعة، فكرة العيش معه أنفّذها بالاشتراك مع نزقي بفترة إقامة غير محددة، ليلة، ليلتان، ثلاث، أربع، عشر، عشرون، ثلاثون، إلى أن تتحول يدي إلى طائر وقلبي إلى مغنّ هاو، لكن من الممكن أن يتبدل ويتغير عكس التوقعات، لحظة فقدان الشغف وانقطاع الاتصال، وسيبدو المشهد تماماً هكذا: «كل شيء يمر كما لو أنني طائر جامد» (جورج شحادة). متخففة من الأمسيات والحضور في المشهد الثقافي، أمسية يتيمة وغياب طويل، هل هذا تصوف أم عزلة المعري التي تضيء؟ - لست مع الشاعر الذي يترك شغفه بتربية الأفكار والكلمات ليحرص أكثر على تمويل سيرته بالمؤن الغذائية الدّسمة مثل الشهادات، المسابقات، الجوائز، الأمسيات، المهرجانات، الملتقيات، حتى تصاب بالسمنة ليقدّمها في كلّ مناسبة وحضور. لست مع الشاعر الذي يتمسك بفكرة الضوء والمفاتيح منحنياً طوال الوقت لالتقاط ظلّ النجوم، سامحاً لوقته بالتسرّب والضياع، فقط ليمنح بطاقة الدخول لعالم الأيدي الجاهزة للتصفيق، قبل أن تتعرف على جوهر الصوت وثرائه، وقبل أن تكشف الغطاء عن الأرواح الحيّة في الأشياء، أحب ضوء عزلتي أكثر، سهراتي الطويلة مع الكلمات في حفلات الموت والحياة، أحب الطبيعة والموسيقى والأيام الخالية من ضجيج الناس و المناسبات، الأيام الخالية من صوت الأنا العالي في الصّحبة القصيرة. غير متصالحة مع الواقع، وكلما اقتربت منه كنوع من التجربة وجدت طريقة سهلة لإتلاف روحي، وكان عليّ أن أختار «وحدي» في كل مرة معها يمكنني أن أحافظ على صحة أحلامي وطول قامتها، أحلامي البسيطة المقطوفة من غناء الوحيدين، المهتمة بزراعة الأزهار في المساحات الفارغة، المهتمة ببناء البيوت لقصائدي بنيّة أن تكون يوماً ما قلباً لأحد، أو شارعاً حنوناً يقصده المكتئبون والسكارى.