حينما تتعرَّض أي امرأة للعنف داخل أسرتها فماذا عليها أن تفعل أو إلى أين تلجأ كي توقف وتدرأ عن نفسها ذلك العنف والأذى عليها؟ الإجابة عن هذا التساؤل من الناحية النظرية هي من الأمور البديهية التي لا تحتاج إلى تفكير أو تأمل عميق، فكل من تتعرَّض لانتهاك حقوقها يمكنها الذهاب للجهات المختصة كمركز الشرطة والتقدم بشكوى بخصوص ذلك من أجل حمايتها من العنف الذي يقع عليها، ولكن من الناحية الواقعية والعملية هل كل من تتعرَّض للعنف وتلجأ إلى مركز الشرطة لتقديم شكواها تكون قد لجأت للمكان الآمن والمناسب؟! جزء كبير من الإجابة عن هذا التساؤل تكمن في الحادثة التي أشارت إليها صحيفة «الحياة» منذ أيام، وذلك حينما تعرَّضت أكاديمية سعودية وباحثة اجتماعية في مكةالمكرمة تبلغ من العمر 47 عاماً للضرب من قبل أخيها الذي يصغرها ب20 عاماً، والطرد من بيت أهلها في وقت متأخرٍ من الليل، فلم يكن أمامها من خيار وهو الأمر المنطقي سوى الذهاب إلى مركز شرطة العزيزية كمدعية ومشتكية من الضرب والطرد الذي تعرَّضت له، وطالبة منهم الحماية من العنف الواقع عليها، فلم تكن النتيجة إلا أن تم رفض تسجيل بلاغ الضحية بل والقيام باحتجازها وسجنها بعد أن حضر أخوها ووالدتها ورفعا عليها قضية عقوق، ولم يتم الإفراج عنها إلا في اليوم التالي بعد أن تدخلت هيئة حقوق الإنسان وهيئة التحقيق والادعاء التي أصدرت أمراً فورياً بإطلاق سراحها وتسليمها إلى عمها. وأشارت الصحيفة إلى أنه وقبل أربعة أشهر سبق أن تعرضت الأكاديمية للضرب والعنف، ورفعت دعواها في شرطة العزيزية، ولم يُلتفت إلى شكواها، ولم يُتخذ أي إجراء قانوني ضد إخوتها، وليست حادثة هذه الأكاديمية فريدة من نوعها، فهناك العشرات من الحوادث المشابهة من حيث وسيلة وأسلوب التعامل معها من قبل المراكز والجهات الأمنية! هذه الحادثة وغيرها من الحوادث المشابهة لها من الطبيعي أن تثير تساؤلات عدة في أذهان الكثيرين، ولكن أهم تساؤل قد يطرحه البعض هو لو كان ثمة قانون في مجتمعنا تجاه حوادث العنف الأسري هل سيكون كافياً للحد من تكرار هذه الحوادث؟ وهل سيتغيَّر موقف ضابط الشرطة الذي رفض تسجيل بلاغ تلك السيدة تجاه أهلها؟ وهل ستحصل كل معنَّفة على الأمان في حال تقدمها بشكواها؟ من وجهة نظري وفي ظل واقعنا الحالي ليست القوانين، على رغم أهميتها وضرورة تشريعها، ستكون بحد ذاتها كافية للخلاص والخروج من هذه الجريمة الإنسانية، فهناك وقبل ذلك أزمة وإشكالية كبرى تكمن في مفهوم وتصوُّر المجتمع للعديد من القضايا والمفاهيم ذات الصلة المباشرة والمتعلقة بقضية العنف، التي ترتكز على أرضية صلبة من الآراء الدينية التقليدية والقيم الاجتماعية المعمول بها، وما رجل الأمن الذي يرفض قبول بلاغ امرأة تتعرَّض للعنف ويقبل بدعوى المعنف، على رغم التوجيهات بعدم قبول أي دعوى مضادة في حال كون المرأة تشتكي من العنف، ما هو إلا نتاج لتلك الثقافة التقليدية والمنظومة والقيم الاجتماعية السائدة في المجتمع، وعلى سبيل المثال من أهم وأبرز المفاهيم المتعلقة بقضية العنف مفهوم القوامة والولاية، فنحن نجد أن الخطاب الديني التقليدي في الفتاوى وعلى المنابر غالباً ما يمنح القوامة المطلقة للرجل ويهبه الحق في تأديب النساء بكونه القائم على تعديل وتقويم المرأة. إذ القوامة من هذا المنظور التقليدي هي قوامة الوصاية والأمر والنهي المطلق بيد الرجل، ومصادرة وذوبان لهوية وشخصية المرأة، وليست مجرد قوامة التدبير والحفظ والرعاية للأسرة بتوفير وتهيئة المناخ المناسب للحياة والعيش، وتعج كتب التراث لدينا بجملة كبيرة من تلك التعبيرات والتفسيرات، فتارة يعبّر بأن المراد بالقوامة قيام الرجل بتدبير وتأديب المرأة وإمساكها في بيتها، وتارة بأنه هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت، وأن عليها أن تطيعه في ما أمرها به من طاعته، وتارة بأنهم يقومون عليهن قيام الولاة على الرعية، ومن يراجع كتب التفسير والفقه سيجد كماً كبيراً من مثل هذه العبارات، وهنا يجب أن ندرك أن كثيراً من العنف الجسدي والمعنوي أو النفسي الذي يقع على المرأة يقع من خلال الاستخدام لهذا المفهوم الواسع والمطلق للقوامة والولاية للرجل على المرأة. ومن المفاهيم المهمة المتعلقة أيضاً بالعنف مفهوم الضرب، فالضرب في معظم المفاهيم والتصورات الدينية يعد إجراءً تأديبياً من حق الرجل ممارسته واتخاذه ضد المرأة، وذلك استناداً إلى الآية الكريمة: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً إن الله كان علياً كبيراً»، باعتبار أن المقصود بالضرب في الآية هو الضرب الحسي، ولقد أسهب المفكر الإسلامي السعودي الدكتور عبدالحميد أبوسليمان في كتابه «ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية» في توضيح المقصود بمعنى الضرب الوارد في الآية بأنه الترك والمفارقة والاعتزال، أي ترك منزل الزوجية ومفارقة دار المرأة واعتزالها، وأن هذا المعنى المجازي استعمل في القرآن، ولا شك أن هذا المعنى هو الأليق والأجدر في سياق ترشيد العلاقة الزوجية في الإسلام. لكن جمهور علماء الدين السابقين واللاحقين بتفسيرهم للضرب في الآية بالضرب الحسي ورفضهم لتأويله قد شرعوا وأوجدوا للرجل المبرر الكافي لاستخدام العنف تجاه المرأة، وبسبب تلك الحرفية اللفظية تقع المرأة ضحية لأنواع شتى من الانتهاكات الجسدية. وكذلك من الناحية الاجتماعية، فالعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية تلعب دوراً رئيسياً في استشراء ظاهرة العنف، فمن العيب الفادح مثلاً في ظل هذه المنظومة الاجتماعية أن تذهب فتاة لتشتكي على أسرتها خارج نطاق إطار الأسرة، أو أن تأتي لتشتكي من غير مرافقة محرم أو وليٍّ لها، وأن الواجب والمطلوب على التي تتعرَّض للعنف والأذى من أحد أفراد العائلة الصبر والمسايسة بانتظار تغيّر في عدوانية المعتدي أو الجلاد لها، والتحمل والتحلي بالصبر الجميل! وليست الجهات الأمنية والقضائية ببعيدة عن هذا التعامل مع النساء المعنَّفات من خلال الواقع الذي نعيشه، وما سبق يجعلنا بحاجة لأن نقول إننا بحاجة إلى ثورة حقيقية في تغيير تلك المفاهيم الدينية التقليدية والقيم والعادات الاجتماعية بما يتناسب مع مستجدات العصر، بحيث تكون مفاهيمنا وقيمنا منسجمة مع كرامة وصيانة الإنسان وحقوقه. * كاتب سعودي