إذا لم تقع مفاجأة كبيرة، فإن الدفعة الأولى من الأسرى الفلسطينيين (477 أسيراً، بينهم 27 أسيرة)، سيتحررون، اليوم الثلثاء، والجندي الإسرائيلي الأسير في غزة، جلعاد شاليت، سيكون في طريق عودته إلى بيته الواقع في أحد الكيبوتسات، شمال إسرائيل بالقرب من لبنان. صفقة شاليت هذه ليست مجرد صفقة أخرى، ونتانياهو نفسه رفضها على مدار ثلاث سنوات جرت خلالها مفاوضات بين حماس وإسرائيل عبر الوسطاء في مصر وألمانيا وتركيا. لكن نتانياهو الذي فاجأ الجميع في مصادقته عليها، يدرك تماماً أنها فرصة لا تعوض، إذا لم يستغلها فلن تتجدد، إذ هي تضمن عودة الجندي شاليت حياً من دون أن يضاف إلى رون أراد، وتضمن أيضاً تثبيتاً لكرسي رئاسة الحكومة الإسرائيلية الذي بدأ يتزعزع مع زيادة الاعتراض على سياسة حكومته واستمرار عزلة إسرائيل في العالم. وعندما أعلن اليمين الإسرائيلي إنه ينوي أن يسلم نتانياهو راية بيضاء تعبيراً عن خضوعه لحركة حماس، كان الأمر بالنسبة لنتانياهو أفضل من أن يسلم هو كرسي رئاسة حكومته أو تحمله مسؤولية مصير شاليت، في ظل مخاوف إسرائيلية من المتغيرات التي تشهدها المنطقة. ومع مباشرة إسرائيل تنفيذ المرحلة الأولى من عملية تحرير الأسرى بتجميعهم في سجني «كتسيعوت» و«هشارون» بانتظار لحظة الإفراج عنهم، وهي عملية اختار لها الإسرائيليون اسم «ساعة الانتهاء» أو «ساعة الإغلاق»، اتسع الانقسام الإسرائيلي حول الصفقة، خصوصاً مع نشر تقارير استخبارية وتصريحات أمنيين سابقين مفادها أن هذه الصفقة مع كل إيجابياتها وضرورة تنفيذها، لا تخلو من مخاطر تصل إلى حد احتمال اختطاف إسرائيليين آخرين، جنوداً كانوا أم مدنيين. رئيس الشاباك السابق يعقوب بيري، رفض القول إن الحكومة الإسرائيلية تجاوزت الخطوط الحمر عند قبولها هذه الصفقة، على رغم تأكيده أن الصفقة غير خالية من المخاطر. بيد أن بيري، وهو أحد الشخصيات الأمنية البارزة التي بادرت لتوقيع وثيقة سلام جديدة قبل أشهر دعت إلى الاعتراف بإقامة الدولة الفلسطينية، وجه سهاماً جريئة نحو الأصوات التي توقعت أن تؤدي الصفقة إلى انتفاضة ثالثة. وقال بيري إنه إذا نشبت انتفاضة ثالثة فإنها ستكون نتيجة للجمود في العملية السلمية وسياسة حكومة نتانياهو تجاه السلطة الفلسطينية. وأضاف: «الفائدة الوحيدة من هذه الصفقة هي إعادة الجندي الأسير شاليت إلى أهلة وذويه». تصريحات بيري أثارت نقاشات بين أمنيين وعسكريين إسرائيليين، ودفعت برامي ايغرا، الذي كان قد شغل منصب مسؤول دائرة الأسرى والمفقودين في جهاز «موساد» إلى القول: «إن الحكومة الإسرائيلية ستدفع ثمناً باهظاً في المستقبل، بسبب موافقتها على إطلاق سراح شاليت مقابل أكثر من 1000 أسير فلسطيني. وأنا كغيري من الإسرائيليين سعيد بعودة شاليت المحتملة إلى بيته وعائلته ولكنني أعتبر تحرير الأسير شاليت بداية مرحلة ستدفع إسرائيل فيها في المستقبل ثمناً باهظاً». ويدافع انغرا عن موقفه باعتباره أن «الصفقة تثبت لأعداء إسرائيل أن جندياً واحداً مخطوفاً هو سلاح إستراتيجي، لا تقل قوته عن سرب طائرات من نوع F16». الأسرى المحررون النقاش الإسرائيلي حول مخاطر الصفقة جاء مع نشر تقرير ل«شاباك» ادعى أن ستين في المئة من الفلسطينيين الذين تشملهم صفقات الأسرى يعودون إلى «النشاط الإرهابي»، ونسبة عالية منهم تعود الى السجن. وفي التقرير الإسرائيلي، رصدت أجهزة الاستخبارات عشرين تنظيماً فلسطينياً في مراحل استعداد لاختطاف جندي أو مواطن إسرائيلي ويشمل ذلك تحذيرات ساخنة في الأيام الأخيرة. ولا يقلل رئيس «شاباك»، يورام كوهين، من خطوة التهديدات التي أطلقها خالد مشعل والتي شدد فيها على أن اختطاف جندي إسرائيلي جديد سيكون أمراً فعالاً ما بقي أسرى أمنيون في السجون في إسرائيل. وتعتقد إسرائيل أن قسماً كبيراً من الأسرى الذين سيعودون إلى غزة سيكون لهم دور كبير في الإفراج عن بقية الأسرى في السجون الإسرائيلية. إسرائيل التي تراجعت عن معاييرها، في صفقة «شاليت»، كانت رفضت قبل سنتين ونصف السنة المخطط نفسه الذي عرض عليها قبل التوقيع على الصفقة الأخيرة. وفي حينه حضر المبعوث عوفر ديكل ويوفال ديسكين الى القاهرة مع علمهما أن «حماس» مستعدة للتوقيع، وكان مطروحاً في جدول العمل أسماء أسرى المرحلة الأولى، وهم 325 منهم 144 أسيراً من سكان الضفة يطردون إلى غزة والى خارج البلاد ويعود 181 أسيراً إلى بيوتهم. وفي ما يتعلق بالأسماء ال125 الباقية، وجميعهم من الأسرى «الملطخة أيديهم بالدماء» ويشملون فلسطينيي 48 والقدس، أعلنت إسرائيل أنه لا نية لها البتة في أن تفرج عنهم. جاء الإسرائيليون آنذاك إلى القاهرة، وكانت لديهم معلومات أن «حماس» ستكون مستعدة لاستبدال أسماء أخرى بال 125 أسيراً، على نحو لا تشذ معه إسرائيل عن المبادئ التي وضعتها لنفسها. بل إن الجعبري ممثل «حماس» جاء إلى القاهرة للتوقيع على الاتفاق. لكن تنظيمه قرر ولأسباب لا تزال موضوع اختلاف في إسرائيل، أن يسحب يده من الصفقة. ضربة قاضية في حملته المعارضة للصفقة استند اليمين إلى تصريحات سابقة لنتانياهو، ووصل البعض إلى حد نشر رسالة كان بعثها إلى اسحق شامير عند التوقيع على «صفقة جبريل» وكان في حينه سفيراً لإسرائيل في الأممالمتحدة. وفي الرسالة يعبر نتانياهو عن معارضته الشديدة للصفقة لما تحمله من مخاطر. وهناك من اقتبس من كتاب نتانياهو «مكان تحت الشمس» مقطعاً حول موقفه من «صفقة جبريل» قال فيه: «إن الصفقة هي ضربة قاضية لمساعي إسرائيل في مكافحة الإرهاب، ولبلورة جبهة دولية ضد الإرهاب». واليوم مع التوصل إلى الصفقة وعلى رغم الدوافع الكثيرة التي أدت إلى موافقة نتانياهو عليها، إلا أن الإسرائيليين يعتبرون الدوافع الأقوى جاءت من قبل «حماس». وأجمع أكثر من مسؤول وخبير ومحلل إسرائيلي على أن موافقة الحركة على إتمام هذه الصفقة جاءت رداً على خطوة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في توجهه إلى الأممالمتحدة للإعلان عن الدولة الفلسطينية. وقد أرادت بتنفيذ الصفقة عرض إنجازات خاصة بها، وقد نجحت في ذلك، وأدت الخطوة إلى إضعاف موقف السلطة وأبو مازن على حد سواء». باراك يعتذر الإسرائيليون باتوا على قناعة بأن الدور الذي لعبته مصر من أجل الإفراج عن شاليت والجهود التي بذلتها، إنما تدل على مؤشرات إيجابية في العلاقة مع إسرائيل، التي تبحث عنها تل أبيب منذ بداية «الربيع العربي». ويتساءل إسرائيليون عما إذا كانت الصفقة ستجلب للمصريين مكسباً إقليمياً ودولياً. ووفق المعلومات التي تناقلها مسؤولون إسرائيليون، فإن المصريين لم يكتفوا فقط بإقناع رئيس الذراع العسكري لحماس أحمد الجعبري، بل عملوا مباشرة مع المحيط الأقرب من خالد مشعل في دمشق ومع مشعل نفسه أيضاً. وقدموا كل تعاون مع رجل «موساد» دافيد ميدان مبعوث رئيس الحكومة إلى التفاوض ومع رئيس «شاباك» يورام كوهين. وكان واضحاً للمصريين أنه لن تتم صفقة إذا لم يرض عنها كوهين. بدأت مراحل إنهاء صفقة شاليت خلال شهر آب (أغسطس) عندما عرض المصريون على إسرائيل وثيقة تؤكد فيها «حماس» إمكانية تجديد التفاوض حول الصفقة. المصريون، بحسب الإسرائيليين، أبدوا قدرات في إقناع «حماس» بقبول تسوية إذا ما استجابت إسرائيل. هذه الوثيقة كانت الخشبة التي ستوصل إسرائيل إلى علاقة مع «مصر الجديدة» بعد خلع حسني مبارك وبعدما توصل المسؤولون إلى قناعة بأن عودة العلاقة مع مصر، كما كانت، مهمة صعبة وزاد تعقيدها الهجوم على السفارة الإسرائيلية في مصر، من جهة، ومقتل الجنود المصريين الخمسة عند تنفيذ عملية «الشارع-12» في إيلات. هذه الوثيقة كانت فرصة لا تعوض لتوثيق الحوار الإسرائيلي الاستراتيجي مع المصريين ولم يتردد الإسرائيليون في القول بأن لجهاز الأمن مصلحة بارزة في تمكين مصر من مكسب دولي للوساطة في صفقة شاليت. ولم يكن صدفة أن يختار ايهود باراك يوم التوقيع على صفقة شاليت حتى يتقدم بالاعتذار للمصريين عن مقتل الجنود الخمسة. فمثل هذا الاعتذار كان تعبيراً عن الشكر للجهود المصرية في الوساطة.