معهد الإدارة العامة يعتمد الواقع الافتراضي في تطوير التدريب    دوري أبطال آسيا للنخبة: الهلال والنصر والأهلي يواجهون في ربع النهائي غوانغجو ويوكوهاما وبوريرام    الدولار يتراجع بسبب مخاوف اقتصادية    أمين القصيم يزور "بسطة خير السعودية" ويشيد بجهود المشاركين    مشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية يجدد مسجد العباسة أحد أبرز أصول التراث العمراني بجازان    الصين تتحضر لمنتخب السعودية بلاعب برازيلي    معالي‬⁩ الشيخ صالح بن حميد يكرم الفائزين والفائزات في مسابقة "مشكاة النبوة" بمكة    بادرة هدايا الخير لمرض الزهايمر تتنقل في جولة اجتماعية وصحية في أرجاء المملكة بشهر رمضان    دوريات حرس الحدود الساحلية تحبط تهريب (24) كيلوجرامًا من مادة الحشيش المخدر بضباء    إدمان الأجهزة لدى الأطفال.. 7 علامات تحذيرية وحلول فعالة    تطوير قدرات الذكاء الاصطناعي مع ضمان امتلاكها أعلى معايير الأمان والموثوقية.. بين التحديات والحلول    18 ألف مستفيد من مركز الزامل للعيون بمستشفى الملك سعود بعنيزة في 2024    التصحيح يغلق مستودعات مخالفة في مركزية الطائف    وكيل وزارة الداخلية لشؤون الأفواج الأمنية يتفقّد قوات الأفواج بمنطقة نجران    قوات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 8 فلسطينيين في الضفة الغربية    القيادة تهنئ رئيس إيرلندا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    ولي العهد السعودي يطلق خريطة «العِمَارَة السعودية» ب19 طرازاً    معركة بدر" نقطة تحوّل في التاريخ الإسلامي ودروس خالدة في القيادة والتخطيط    بدجت السعودية وتمارا.. شراكة استراتيجية تعيد تعريف تجربة تأجير السيارات    4.07 تريليون ريال حجم الناتج الإجمالي.. السعودية .. نمو مستدام ووجهة عالمية للاستثمار    موجز    واشنطن: الهجمات على الملاحة يجب أن تتوقف.. ضربات أمريكية على الحوثيين في 6 محافظات يمنية    للمرة الأولى في تاريخه.. وبحضور الرميان.. نيوكاسل بطلًا لكأس الرابطة الإنجليزية    ولي العهد ورئيسة وزراء إيطاليا يبحثان المستجدات الدولية    احرصوا على سجل الذكريات    معرض "الداخلية" يعرف بالخدمات المقدمة لضيوف الرحمن.. تطبيقات ذكاء اصطناعي لإدارة الحشود    34 قتيلًا وجريحًا.. حصيلة انفجار اللاذقية.. الضباط «المنشقون» ركيزة الجيش السوري الجديد    «عشا الوالدين»    إذا لم تفشل.. فأنت لم تحاول من الأساس    هيئة المدن الصناعية ارتفاع عدد المصانع بتبوك إلى 200%    نائب أمير منطقة تبوك يشارك الأيتام إفطارهم    جمعية تحفيظ القرآن الكريم بالعيص تنهي برنامج ( أكلفهم ولك أجرهم )    صور مشرقة ل"كشافة تعليم الطائف" في خدمة المعتمرين بميقات السيل    برشلونة يتغلب على أتلتيكو مدريد في الدوري الإسباني    لوران يريح اللاعبين خمسة أيام    مستشفى الأمير ناصر بن سعد السديري بالغاط يواصل حملة "صم بصحة"    الزلزولي خيار جديد على رادار الاتحاد    ترفيه ومبادرات مجتمعية    نوتات موسيقية لحفظ ألحان الأهازيج الشعبية    مرسم مفتوح ومعرض تشكيلي في رمضان زمان    العلمانية.. عناصر جديدة لفهم مسارها    تي تي إم تحتفي بإرثها في ملتقيات رد الجميل    إصلاح قدرات الناتو ضرورة لمواكبة التهديدات المتسارعة    «مسام» ينتزع 548 لغمًا خلال أسبوع في اليمن    4.67 ملايين للعناية بمساجد الأحساء    الأثر الثقافي للتقاليد الرمضانية    أخطر رجل في الجماعة الإرهابية: مرحلة الإمارات (7)    طاش مديرا تنفيذيا للمدينة الطبية    321 عملية أورام تعيد الأمل لمرضى جازان    100 متطوع ومتطوعة بحملة صم بصحة    مكة في عهد الوليد بن يزيد.. اضطرابات سياسية وتأثيرها على إدارة الحرم    نائب أمير نجران يثمَّن جهود الأفواج الأمنية.. ويكرم الطلاب المميزين    وغابت الابتسامة    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"لامرئي تقريباً" ديوانه الجديد . مارك ستراند يبحث عن شخوص المتاهة
نشر في الحياة يوم 06 - 10 - 2012

ينتمي الشاعر الأميركي مارك ستراند، الذي ولد في كندا عام 1934، وشبّ وترعرعَ في الولايات المتحدة، وأميركا الجنوبية، إلى جيل الستّينات الشعري، الذي شهد تحولات كبرى، ساهمت ببروز نزعة ثورية جديدة، غيّرت جذرياً نظرة الأميركي إلى ذاته وهويته وثقافته، وخصوصاً إبان الخروج من الحرب العالمية الثانية، والدخول في حرب فيتنام. نزعة أجّجت روح التمرّد، وأحدثت هزّة عميقة في الوعي الثقافي السائد، مهّد لها وبلورها شعراء صعاليك نشروا نصوصاً صادمة في أواخر الخمسينات، من أمثال آلن غينسبرغ في ديوانه"عواء"، وجاك كيرواك في روايته"على الطريق"، ووليام بوروز في روايته"العشاء العاري".
ولم يكن مارك ستراند بمعزل عن هذه التحوّلات، حيث ساهم مع شعراء آخرين، من أمثال جون آشبري وروبرت كريلي، وإي، إي كمينغز، وسواهم، في التأسيس لحساسية شعرية جديدة، انتفضت، فكرياً وجمالياً، على إرث الأسلاف الكبار، من أمثال إليوت وباوند وفروست وستيفنز، ونبذت البلاغة الرومنطيقية، وخلّصت اللّغة من إحالاتها الأسطورية المتعالية، معتمدةً الشفافية معياراً جمالياًً لمعانقة اليومي والمحسوس، مع الإبقاء على وشائج قوية مع الرائي الكبير وولت ويتمان، الذي ظلّ كتابه"أوراق العشب"مصدر إلهام لا ينضب للأجيال الشعرية المتعاقبة في أميركا.
وعلى مدى قرابة نصف قرن، وتحديداً بين ديوانه الأول"النّوم بعينٍ واحدةٍ مفتوحة"، الصادر عام 1964، وديوانه الأخير"لامرئي تقريباً"، الصادر أخيراً في نيويورك، عن دار ألفرد نوبف، 2012، أصدر مارك ستراند أكثر من خمسة عشر كتاباً شعرياً، وترجم الكثير من شعراء اللّغة الإسبانية، وحرّر موسوعة شعرية ضخمة، بالتعاون مع الشاعر الأميركي المرموق تشارلز سيميك، ضمّت سبعة عشر كاتباً من أوروبا وأميركا الجنوبية، وتخلّل ذلك فوزه المستحقّ بجائزة بوليتزر للشعر، عام 1999، عن ديوانه"عاصفة ثلجية". في ديوانه"لامرئي تقريباً"، الذي يضمّ سبعاً وأربعين قصيدة نثرية، ممتدة أفقياً قي شكل أحجيات سردية، يتخلّلها حوارات متقطّعة، ومزق فلسفية من منولوجات لم تكتمل، واستبصارات نفسية مفاجئة، يعتمدُ ستراند نبرة نوستالجية، مفعمة بالحنين، تسترجع مشاهد لموانئ بعيدة، وصوراً لقوارب مهجورة وأشجاراً هاربة، كأنّما هي بحث عن طفولة بعيدة نائية، وفضاءات تشكيلية تذكّر بلوحات فان كوخ.
وليس غريباً أن تتسرّب التماعاتُ الفنّ التشيكلي إلى نصوص الشاعر الذي درس الرسم أكاديمياً في جامعة ييل، وخبر تقنياته ومدارسه، بل إنه نشر كتاباً عن الرّسام الأميركي الشهير إدوارد هوبر، الذي كان قد استلهم بعض مناخاته الشاعر اللبناني الرّاحل بسام حجّار. في هذا الكتاب يتحدّث ستراند عن شخوص هوبر، ويصفهم بأناسٍ فقدوا كلّ أمل بالخلاص، ما جعلم يقعون في فخّ الانتظار الأبدي، لا مكان يؤويهم، ولا مستقبل بانتظارهم، تماماً كما هي حال أبطال صموئيل بيكيت المهزومين. ينطبق الشّيء ذاته على شخوص ستراند في ديوانه الجديد، حيث يصف أناساً تائهين، سرابيين، حالمين، لا يلوون على شيء، فقدوا كلّ أمل بالانتماء، كما في قصيدته"أحجية اللامتناهي":"كنتُ قد رأيتهم عند الغسق، يمشون على الشّاطئ، أو يقفون أمام مداخل البيوت، أو ينظرون من النّوافذ، أو يقتفون الحركةَ البطيئةَ للظلّ. إنّهم عشّاقُ الحيرة، لا هم هنا ولا هم هناك، لا في الداخل ولا في الخارج... يستلقون في أسرّتهم، بعينٍ واحدةٍ شاخصة وأخرى مغلقة، يأملون باصطياد اللّحظة الأخيرة للوعي، وأوّل ِالنوم، لكي يسكنوا أرضاً لا يسكنُها بشرٌ".
ولعلّ السمة الأبرز في قصائد ستراند هي نزوعه للتجريد، ورسم مشاهد إنسانية تلفّها الوحشة، عبر استلهام العبثي، والمفاجئ، وبخاصة إذا عرفنا أن مواضيعه تركّز على الشعور الغامض بزحف الشيخوخة، والإدراك الدفين بالعجز أمام صبوات الجسد. ولأن الشاعر يعي في قرارة نفسه فداحةَ الإصغاء لدقّات السّاعة، نرى قصائده موشّاة بهالة من الغنائية الدامعة، بعيداً من الميلودراما الفائضة، مستخدماً مفردات واضحة، مألوفة، يزجّها في سياقات غرائبية، غير متوقّعة. ومن الواضح أن هذه النزعة تتمرّد على بلاغة الصورة الشعرية، وتعيد الاعتبار إلى الشفافية، بعيداً من التكثيف الرّمزي، الذي ميّز شعرَ الأسلاف. ونلمسُ لدى ستراند شغفاً فريداً باللّقطة المكتنزة بالحسّ، التي تحاول تقريب المسافة بين الرّسم والشعر. ففي قصيدة"السحر اليومي للموسيقى"، على سبيل المثال، تبرز مهارة ستراند في نحت المشهد بأكثر المفردات تقشّفاً، حيث يتجنّب دفق الصور، معتمداً التراسل الحرّ للألفاظ، ومركّزاً على صفاء الفكرة، من دون جلبة أو ضجيج. في هذه القصيدة يصف الشاعر كيف تتكوّنُ الموسيقى، بدءاً من صوتٍ خشنٍ يُصقَلُ، وانتهاءً بنغمٍ يشفّ أكثر فأكثر، حتى يصيرَ موسيقى، تحملُنا إيقاعاتُها إلى مدنٍ غريبة. هذه الموسيقى مرتبطة بحركة الأشياء في الطبيعة، فحين تشرقُ الشّمسُ، تعودُ الموسيقى،"وفي البعيد، عند حافّة المدينةِ، يظهرُ سربٌ طويلٌ من الغيوم، ويُسمَعُ رعدٌ، بنبرتِهِ المتوعّدةِ، ليصيرَ ذاته موسيقى".
وبسبب تأثره بعوالم بورخيس الفانتازية، وسوريالية الشّاعر البرازيلي كارلوس دي أندراده، نرى الشاعر يوغل في المنولوج المتشظّي، عاكساً تناقضات الذّات، وأحلامها المكسورة. في إحدى القصائد، يبحث المتكلّم عن شواطئ جديدة يريد أن يكتشفها، على طريقة البحّار الأسطوري عوليس، تحدوه رغبة جامحة لنسيان الحاضر، وامتلاك ذاتٍ جديدة، لكنه سرعان ما يكتشف عجزه:"أستلقي في الفراش، غير قادرٍ على الحركة، ... أتأمّل أطوار الكآبة، تتغلغلُ في الرّوحِ، وتستحوذُ على الإرادة، وتطردُ الحسّ إلى صقيعِ الغروب، ... وأظلّ أحدّقُ في السّقف، حتى تلفحني هبّةٌ من هواء بارد، وأتواراى". هذا التواري يكشف، بالمقابل، عن معرفة حدسية باقتراب النهاية، حيث نرى الشاعر منكباً على تفكيك إحساسه العميق بالكآبة، محلّلاً هواجسه الدفينة، ليس على طريقة فرويد، بل على غرار ما فعل أوسكار وايلد أو جيمس جويس في البحث عن صورة الفنّان ومكابداته.
يصف ستراند في قصيدة بعنوان"الكآبة الدفينة للشاعر"كيف أنه ذات صيفٍ، حين كان في ريعان الشباب، وقف خلف النّافذة، وراح يتساءلُ أين ذهبت أولئك النسوة اللّواتي كنّ يجلسن قرب المحيط،"ينظرْنَ في البعيد، وينتظرْن شيئاً ما لن يأتي أبداً"، ويسهب الشاعرُ في الحنين، متسائلاً، بلوعة الفنّان المفطور على الجمال:"من أيّ فصلٍ هبطْنَ، من أية فكرةِ للرهافة ضَلْلن طريقهنّ". هؤلاء النسوة يمثّلن في وعي المتكلّم، وربما الشّاعر، بهاء روحانياً وجسدياً لا يمكن استرجاعه، ما يدفعه للخروج إلى العراء، متسكّعاً في اللّيل العجيب، في بحر العتمة، من أجل أن يخلعَ ضوءَه، لكنّه خَلَعَ الظّلامَ،"ولم يجدْ سوى العتمة".
وتحضر المتاهة البورخيسية بقوة في بعض قصائد ستراند، حيث يتفنّن الشاعر في محاكاة المرايا التي ما تفتأ تحيل الوجود إلى متاهة لامتناهية من الظلال. في قصيدة بعنوان"مثل ورقةٍ في مهبّ الريح"، يسردُ ستراند كيف أنّ أحد شخوصه الغامضين، وبعد أن يغادرَ عملَهُ، الذي يظلّ لغزاً بالنسبة له، يخرج ويتسكّع في شوارع، ذات إضاءة خافتة، وعبر أزقة معتمة، وحين يصل غرفته، في أقصى المدينة، يجلسُ خلف طاولةٍ صغيرة، وينظرُ إلى الكتاب المفتوح أمامه، إلّا أنّ"صفحات الكتاب بيضاء تماماً، وهذا هو السّبب الذي يجعلُه يحدّقُ فيها لساعات". هذا الشّغف بالبياض، والتحديق القاسي في الفراغ، يتكرّر في قصيدة أخرى يبوح فيها زوجٌ لزوجته، بعد سنوات طويلة من الزواج، بأنّها"لن تعرفه أبداً، لأنّ كلّ ما يقوله يكمنُ خلفه كلّ ما لا يقولُه، وخلف كلّ كلمة يتفوّهُ بها، توجد كلمةٌ أخرى، وخلف هذه مئات الكلمات الأخرى". وعلى طريقة بورخيس، يخرجُ المتكلّم بنتيجة صادمة، مفادها أنّ"كلّ تلك الكلماتِ التي لم تُقَل تُخفي ذاتَه الحقيقيةَ".
يدأبُ مارك ستراند على تصوير صور الوجود المتناقضة، وتعدّد متاهاته الرّملية، مستنداً إلى نزعة سوريالية سكنتهُ مبكّراً، حيث العالمُ من حولنا لا يعدو كونه صورةً لفكرةٍ أولى، غامضة وقلقة، تبتعدُ وتنأى، كلما حاولنا الاقترابَ منها، أو الإمساكَ بجوهرها القصيّ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.