نظمت مكتبة"المتوسط"في باريس لقاء مع الشاعر اللبناني شربل داغر، في مناسبة صدور كتابه"عتمات متربصة". وهي مختارات شعرية، بالعربية والفرنسية، أعدها وترجمها نعوم أبي راشد، ونشرتها دار"لاماتان"في باريس، وتضم قصائد من دواوين الشاعر المختلفة. وشارك في اللقاء الشاعر صلاح ستيتية والشاعرة إيتيل عدنان، فضلاً عن شعراء ونقاد ومتذوقي شعر، فرنسيين وعرب، وتخللته قراءات شعر وتوقيع. ومما قالته إيتيل عدنان في هذا اللقاء:"شعرُ شربل داغر عامر بعلامات وجود، شرارة، مسار برق في فضاء مضطرب. لا يتوانى الشاعر فيه عن مباغتة الهارب، والذكريات المتوثبة، والحاضر المجبول بالنار. إنه شعرُ مسافر، وقد بات الشعور بالتغريب في أي مكان مفقوداً في السنوات الأخيرة.... في هذا الشعر افتتان بالطفولة، والحب، حيث لا يقول الشاعر مباشرة، كما في قصيدة"غزل"، وإنما يطلق القول الشعري في شكل مائل. وفي هذا العالم الخصوصي، في عالم القرية في الجبل اللبناني، في عالم أحجار الشاعر، تصفر الريح من دون توقف، مثل الشاعر في نفاد صبره الذي يودي به الى الفراغ، الى اشتهاء الفراغ. حتى ان الشاعر يرسم صورة فجة عن هذا العالم الطفولي في القرية. هكذا يتعين عليه في القصيدة ان يعاين، أن يلتقط من الموجودات تفاصيلها الدقيقة، المستقاة من تجربة الشاعر.... هكذا يجدد داغر حداثة الشعر العربي، وعلى طريقته: باستعماله العربية في عبقريتها المخصوصة، المتعينة في كثافتها، في سرعتها، في إيجازها الشديد. ويجدد أيضاً هذه الحداثة إذ يعطي الأفضلية لأحاسيسه الملحة، مستعيناً بالألفاظ نفسها مثل علامات وجودية، مثل عروض دالة، فلا ينبسط المعنى وإنما يشير وحسب الى وجهته. ويجدد داغر هذه الحداثة بابتعاده عن الكلام الفخيم، محتفظاً بسخرية وبلهو أكيدين: اللهو بالصور لتحويلها، فلا تتعين في المأسوية التي تنضح منها. ومع ذلك، هذه الحداثة، أي هذا الزمن الحاضر المحيط بنا، مجبول على الخوف، وتشير اليه قصائد بقوة، لا في عمومياته، وإنما في بين ? بين، في غفلة الشهيد عن نفسه، في غيبة الجسد عما هو وعما له أن يكون...". وقال صلاح ستيتية في كلمته، التي أطلق عليها عنوان"الشعر غموضاً وغياباً":"يتوجب علينا إيلاء اهتمام كبير للعناوين التي يطلقها الشعراء على كتبهم."عتمات متربصة"واحد من هذه العناوين العامرة بأسرارها المكينة. العتمة، هنا، مدعاة لخشية مرتين: لما هي عليه، وخصوصاً لتوثبها، إذ انها تتهيأ للانقضاض على فريستها. الهم ماثل، إذاً، وبما أننا أمام عمل يقوم على التفقد الشعري، فإن هذه العتمة لها طبيعة داخلية. ولكن ما الذي تحفه المخاطر إذ يصدر عن باطن الإنسان الغامض؟ المتخصصون يجتمعون على معرفة الجواب، ومنها الشعراء أنفسهم، لإلفتهم الشديدة مع هذه العتمة: ما يهدد الانسان، ما يهدد الشاعر، هو اللاوعي. هذه العتمات التي بالمرصاد تراقب بعضها بعضاً، وهي القوى التي تبني اللاوعي بتناقضاته كلها، فينشأ من هذا البناء القول الشعري، وربما القول المنقذ، سعياً لإزاحة هذه العتمة. كتاب شربل داغر عامر بلا وعيه: اللاوعي الشخصي واللاوعي الاجتماعي، ذلك انه يتوجب على شاعر من الشرق، من لبنان، في المأساة التي يعيشها أهل هذا البلد، منذ عقود، وفي حروب عدة، يتوجب عليه ان يجعل اللاوعيين هذهين يتحاوران. المأساة العمومية لا تتمايز دائماً عن المأساة الشخصية، وتقول لغة هذه لغة تلك، فضلاً عن ان العكس صحيح بدوره. لهذا يمكن الحديث، في هذا الكتاب، عن شكل انساني مغفل، كما لو أن المتكلم في القصيدة، بعيداً من عيشه المخصوص، يحمل كلام غيره أيضاً المشدود الى كلام أحدهم والمدرك لتعدده.... هكذا ترون كيف ان الشاعر هو نفسه غرض الشعر، لا الفريسة، بفعل لعبته المزدوجة، حيث ضمير المتكلم الفردي في الفرنسية يختلف قليلاً في تركيبه je عن لفظ فرنسي آخر jeu يشير الى اللعب. هكذا يستتر المتكلم خلف"حاطب ليل"، بحسب قوله، لكي يفلت منا، ويفلت من نفسه. لعبة مزدوجة، وأنا مزدوجة: ازدواج الانسان مع نفسه، ازدواج الميت مع الحي، والواحد مع الآخر. هذا هو ما تلمسه، في شكل سري، هذه المختارات الكثيفة، على ما أرى.... يقول داغر:"هذه عروسي، أعرفها،؟/ لها ساق من دون موسيقى،/ وقوام أخضر،/ وعينان تزهران على شباك الضجر،/ ألا تكون حَبَقة لا يشمها/ إلا من يمسك بها؟". ومن يُمسك بها، ومن لا يُمسك بها أيضاً، يحتفظ في سره بوديعة عطرها العريق. على أية حال، هذا العطر العريق الذي للغائبة، للغائب، للغياب، الذي يشيع في جنبات مجموعة القصائد الأخيرة في المختارات، له عنوان"قصيدة الغائب"، وهو أبلغ توصلات الحال الشعرية، على أن تعود الى كل واحد منكم، مستعيناً بمفاتيحي المتواضعة هذه، لذةُ اكتشاف هذا الشعر، وتنشقُ هذا العطر بمحبة". واستضافت دائرة العربية ودائرة الترجمة في جامعة"مارك بلوك"في ستراسبور الشاعر شربل داغر، وخصصت له القسم الصباحي من أوراق عملها ومناقشاتها، في إطار حلقتها الدراسية:"قول الشعر العربي المعاصر وكتابته"، وعقدت في"صالة موستيل دو كولانج"في"القصر الجامعي". وبعد مداخلات لبريان واليس، عميد الآداب في الجامعة، تناول نعوم أبي راشد، في ورقته مسألة"الشعر العربي بين الترجمة والإبداع"، انطلاقاً من ترجماته الشعرية المختلفة، ومنها عمله الأخير على شعر شربل داغر.