كانت المرة الأولى التي يصطحب فيها رئيس وزراء تركي جنرالاً ضمن وفده للقاء الرئيس الأميركي في البيت الأبيض، الجنرال ارغون صايغون نائب قائد الأركان، والمرشح لأن يكون قائد الأركان بعد خمس سنوات والذي كان قد قاطع اجتماعا في واشنطن عام 2004 احتجاجاً على طلب تفتيشه على باب البنتاغون، يعود الى واشنطن بعد ثلاث سنوات من المقاطعة حاملاً معه مشاعره التي لا يخفيها من عدم الثقة بالحليف الأميركي، تلك المشاعر ربما هي التي دفعته للقبول بالسفر مع أردوغان وزوجته المحجبة على الطائرة نفسها، علماً بأن الجيش ناقش هذه الفكرة وانقسم حولها بين مؤيد ومعارض، معارض لعدم ثقته بالطرف الأميركي الذي قد يستخدم ما سيتم بحثه خلال اللقاء العسكري ويسربه الى الجانب الكردي في شمال العراق، ومؤيد باعتبار ان صورة الجنرال الذي يصاحب رئيس الوزراء في السفر تعكس توحد موقف الجيش والحكومة والجدية في مسألة محاربة حزب العمال الكردستاني، ولأن الوجود العسكري في اللقاء قد يتيح للجيش الكشف عن أي صفقات سياسية قد تعقد خلف ظهره بين أردوغان وبوش. لكن صايغون لم يحصل على ما جاء من أجله، فبعد لقاء الوفدين الجماعي الذي استمر ربع ساعة فقط واقتصر على الترحيب والمجاملة الديبلوماسية، اختلى بوش بأردوغان مدة سبعين دقيقه مع وزيري خارجيتهما، حيث دار حديث مطول لم يعرف بتفاصيله الجنرال القادم من أنقرة. لقاء أردوغان - بوش الذي أُعِد له جيداً، يمهد لتحولات وتطورات كبيرة ستشهدها الساحة التركية والمنطقة قريباً، على صعيد القضية الكردية في حال لم يتنصل اي من الأطراف الأربعة ? أميركا، تركيا، حكومة كردستان العراق وحزب العمال الكردستاني ? من دوره المرسوم والمتفق عليه. إذ انه من المتوقع أن يسلم حزب العمال الكردستاني سلاحه في شكل مفاجئ، ربما بعد غارات يشنها الجيش التركي على معسكراته في شمال العراق من الجو، بموافقة أميركية وصمت عراقي، وأن يتبع ذلك تسارع في التعاطي مع الملف الكردي سياسياً في تركيا نحو مسيرة تسوية يتم صوغها في الدستور التركي الجديد الذي يجرى العمل عليه حالياً، وتعود أبواب الحوار السياسي بين أنقرة وحكومة كردستان العراق لتفتح من جديد، ليبقى في شمال العراق حزب بيجاك المنبثق عن حزب العمال الكردستاني، وهو يعمل ضد إيران انطلاقاً من شمال العراق ليكثف هجماته في المرحلة المقبلة بدعم أميركي وصمت تركي - عراقي. قد يبدو هذا السيناريو صعب التحقق، لكن المؤشرات تقول بأن الأمور تسير في هذا الاتجاه: إعلان أردوغان موافقته على التواصل سياسياً مع أكراد العراق، ودعوته حزب العمال الكردستاني الى ترك السلاح وحل الخلافات تحت قبة البرلمان، وتغيير المعارضة التركية موقفها ودعوتها الى علاقات أفضل مع أكراد العراق، وتنادي قيادات عسكرية متقاعدة الى تجاوز أخطاء الماضي في التعامل مع الملف الكردي. ماضي المثلث ونظرة سريعة الى الأحداث خلال السنوات العشر السابقة قد توضح الصورة اكثر. فالخلاف السياسي بين أنقرةوواشنطن على مستقبل شمال العراق بدأ عام 1998 عندما سحبت الإدارة الأميركية البساط من تحت أقدام تركيا ودعت مسعود البرزاني وجلال طالباني الى حوار مصالحة في واشنطن حيث التقيا هناك وزيرة الخارجية مادلين اولبرايت، وبدا لأنقرة حينها الاهتمام الأميركي بقيام كيان كردي في شمال العراق، وبدا أن محاولات تركيا للسيطرة على تلك المنطقة من خلال جمعها برزاني وطالباني ومصالحتهما، وربطهما بعلاقات اقتصادية وأمنية واستخباراتية وعسكرية متينة معها ستنتهي الى الفشل بعد ظهور الاهتمام الأميركي بشمال العراق. وفي عام 1999 سلمت أميركا زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان الى تركيا في عملية استخباراتية تم الاتفاق عليها بين الطرفين شرط أن تبقي تركيا على حياة اوجلان، وان بدت هذه خدمة قدمتها أميركا الى تركيا، إلا انها كانت ? وربما في شكل أهم - خطوة ضرورية لتخليص شمال العراق من منافس كردي مزعج يسعى الى زعامة الأكراد في المنطقة بأسرها من خلال طرح يساري ثوري يتهم بقية أكراد العراق بالخيانة والعمالة لدول المنطقة، وهو"حزب العمال الكردستاني"، الذي كان يدخل من وقت الى آخر في قتال مع حزبي"الديموقراطي الكردستاني"وپ"الاتحاد الوطني الكردستاني"في شمال العراق، كما ان تخلص تركيا من"حزب العمال الكردستاني"في حينه كان سيخلع مسمار جحا الذي زرعته في شمال العراق وينهي اي حجة تركية لوجود الجيش التركي هناك، إضافة الى أن إغلاق الملف الكردي داخل تركيا كان سيساعد في تقليل الحساسية التركية تجاه أكراد العراق من خلال دفع تركيا الى مسيرة إصلاحات ديموقراطية على طريق العضوية في الاتحاد الأوروبي. كان واضحاً حينها أن الإدارة الأميركية تتحرك في صورة تتيح لأكراد العراق التنفس بحرية وتنمية منطقتهم، فيما الدور الذي ترسمه الإدارة الأميركية لتركيا لا يتجاوز دور الأخ الأكبر لهذا الكيان الكردي الناشئ في شمال العراق. لكن الأمور لم تتطور على هذا النحو بسبب رفض الجيش التركي فكرة إعلان عفو عن عناصر حزب العمال الكردستاني، وعجز الحكومة الائتلافية بزعامة بولنت أجاويد عن إحداث اختراق في القضية الكردية في تركيا او حتى تنمية المناطق الكردية في جنوب شرقي تركيا اقتصادياً، ومع ازدياد الاهتمام الأميركي بأكراد العراق ازدادت حساسية تركيا تجاههم بدلاً من أن تتضاءل مع إصلاحات الاتحاد الأوروبي التي بقي جزء منها حبراً على ورق ومن دون تطبيق. وشكلت الحرب الأميركية على العراق نقطة تحول مهمة في ميزان القوى بين أكراد العراقوتركيا، إذ تحول إقليم كردستان العراق الى حليف جديد لأميركا في المنطقة، وان لم يكن على حساب العلاقات بين تركيا وأميركا، لكن ذلك أثر في علاقات أنقرة مع اربيل، فأنقرة التي كانت تنظر الى شمال العراق على انه حديقتها الخلفية وأن على زعاماته الكردية تقديم فروض الولاء والطاعة، تحول الى بذرة دولة ناشئة تسعى الى علاقات ندية مع تركيا، إحدى كبريات دول المنطقة، وبدا أن ما تطمح إليه الإدارة الأميركية من التعاون والعلاقات الطبيعية بين إدارة شمال العراق الكردية وتركيا سيتحول الى علاقة متوترة تدفع واشنطن من وقت الى آخر الى موقع اختبار تفرضه تلك التوترات ويبدو من خلاله ان على واشنطن ان تختار بين أحد الطرفين وتتخلى عن الآخر. مقترح أميركي قديم يتجدد ولتجنب هذا الأمر عادت واشنطن الى طرح العرض القديم بإنهاء حزب العمال الكردستاني الذي شكل الحجة الأكبر لتدخل تركيا في شمال العراق وسوء علاقاتها مع قياداته، وطرح جلال طالباني عام 2002، بدعم أميركي وأوروبي، حينها مشروع صفقة على أنقرة يقضي بإعطاء قيادات حزب العمال الكردستاني لجوءاً سياسياً في السويد، وعودة بقية عناصر الحزب صغار السن الذين لم يشاركوا في القتال الى تركيا في مقابل عفو عنهم وأن يسلموا سلاحهم الى الإدارة الكردية في شمال العراق، لكن الجناح العسكري في مجلس الأمن القومي التركي رفض العرض الذي بدت الاستخبارات والحكومة مستعدتين لقبوله. ومن دون إبداء أسباب للرفض، بدا أن الجيش التركي لا يريد إغلاق هذا الملف الذي من خلاله يمكن ان يطل من وقت الى آخر على شمال العراق ويضبط تطورات ذلك الإقليم ويمنع مبكراً التحضير لقيام دولة كردية فيه، من خلال وجوده العسكري المستمر على حدوده بحجة مراقبة حزب العمال الكردستاني المتمركز هناك. بل ان محاولات حزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية الاعتراف بوجود مشكلة كردية ومعالجتها بأسلوب مختلف، مع الاعتذار عن أخطاء الدولة سابقاً في التعامل مع هذا الملف والذي جاء على لسان أردوغان في دياربكر عام 2006، قوبلت برفض المؤسسة العسكرية التي بدأت على الفور السعي الى إطاحة حكومة أردوغان بحجة تهديدها النظام العلماني الاتاتوركي ووحدة التراب التركي. خلال تلك الفترة لم يكن أكراد العراق وحدهم الذين طوروا علاقاتهم بالإدارة الأميركية وكسبوا الدعم والتأييد، بل ان حزب العمال الكردستاني كان هو أيضاً بدأ اتصالات سرية مع الجيش الأميركي واستخباراته في العراق، وعرض الحزب خدماته على أميركا وقدم استعراضاً للقوة في سورية من خلال إثارته أحداث القامشلي عام 2004، ونجح في الحصول على الدعم لفرعه"بيجاك"الذي يقاتل في إيران، فتلقى الحزب أسلحة كان الجيش الأميركي ادعى انها فقدت بعد تسليمها للجيش العراقي. كانت ضربات وهجمات بيجاك موجعة الى درجة انها دفعت إيران الى قصف مواقع الحزب في شمال العراق، وتحول موقف طهران الداعم سابقاً لحزب العمال الكردستاني الى إعلان الحزب حزباً إرهابياً ودعوة أنقرة الى العمل معاً ضده، وهو تعاون كانت تركيا قد سعت إليه في نهاية التسعينات من دون فائدة. السلاح الأميركي تسلل من عناصر بيجاك الى رفاقهم وزملائهم في حزب العمال الكردستاني وبدأ الحزب يقاتل تركيا بأسلوب متطور وأكثر فاعلية. صورة جديدة للعمال الكردستاني قبل ان يدرك الجيش التركي هذه الحقيقة المفاجئة، كان قائد الأركان بيوك انيط يفكر في استخدام ورقة حزب العمال الكردستاني مجدداً، لكن، هذه المرة ضد حزب العدالة والتنمية الحاكم للتضييق عليه قبيل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة، اذ تعمد الجنرال بيوك انيط في نيسان ابريل ? قبل موعد الانتخابات الرئاسية بأسبوعين ? ان يحول أنظار الأتراك فجأة الى شمال العراق ويقول أن الحل الوحيد والأكيد لقطع دابر هجمات حزب العمال الكردستاني المتواترة ضد تركيا يكمن في دخول شمال العراق للقضاء على معسكرات الحزب هناك، ويتنبأ سلفاً بنجاح مثل هذه الحملة العسكرية. وجاء تصريحه ليقطع الطريق على محاولات كانت تجرى سراً بين أنقرة وحكومة اربيل لإعداد لقاء بين وزير الخارجية التركي عبدالله غول ورئيس الوزراء في اربيل نتشيروان برزاني للتنسيق في امر التصدي لحزب العمال الكردستاني والحديث عن مستقبل العلاقات بين الطرفين خصوصاً أن انقرة ترفض الاعتراف بفيديرالية شمال العراق التي تقول انها قامت قبل الانتهاء من مناقشة مسألة الفيديرالية في الدستور العراقي، كما ان اقتراح الجيش دخول شمال العراق كان يهدف الى إحراج الحكومة التي تفضل التنسيق مع واشنطن وأربيل سياسياً وأمنياً بدل الحل العسكري، وهي تدرك ان عملية عسكرية في شمال العراق ستسيء الى علاقاتها مع واشنطن وتثبت الخلاف مع إقليم كردستان العراق الذي كانت تصريحات مسعود برزاني المتحدية لأنقرة من وقت الى آخر تلهبه. ولم يكترث الجيش التركي بتصريح مهم لأردوغان اعتبر فيه ? بعد إعلان حزب العمال الكردستاني وقف إطلاق النار من جانب واحد بداية العام الجاري ? انه في حال لم يتعرض الجيش لخلايا الحزب فإنه لا يتوقع هجمات جديدة، وأصر الجيش على عمليات تمشيط واسعة استهدفت خلايا العمال الكردستاني المسلحة داخل تركيا، وهي عمليات تحجج بها الانفصاليون الأكراد ليبرروا هجماتهم التالية التي اعتبروها انتقامية مع التأكيد على استعدادهم لوقف القتال في حال توقف الجيش عن الهجوم. وأمنت هجمات الجيش وهجمات حزب العمال الكردستاني المضادة خلال الصيف الماضي جواً أحرج الحكومة التركية مع ازدياد أعداد القتلى من الجنود الأتراك. بعد تصريح قائد الأركان التركي كثف الحزب الكردستاني هجماته في صورة كبيرة ومؤثرة وملفتة للنظر، ومع إسقاط الحزب لأول مقاتلة تركية من نوع سكورسكي في بداية حزيران يونيو الماضي، بدأ الجيش يدرك انه ربما تسرع في الاستهانة بقدرات حزب العمال الكردستاني الذي بدأ يعمل على استدراج القوات التركية الى شمال العراق، بعد ذلك اكتشفت في أنقرة في أيلول سبتمبر وفي صورة غريبة وغير مفهومة شاحنة مفخخة بأكثر من ستمئة كيلوغرام، وبصمات الحزب الكردستاني واضحة على تلك القنبلة، جاء ذلك بالتزامن مع فضيحة معهد هودسون الأميركي الذي أعد بإشراف من المحافظين الجدد الأميركيين ندوة عن سيناريو دخول الجيش التركي شمال العراق بعد هجمات دموية لحزب العمال الكردستاني في تركيا، تلك الندوة التي سجلت رفض مسؤول عسكري تركي كان بين الحضور سيناريو مقترحاً بأن تسلم واشنطن عدداً من قيادات الحزب الكردستاني لتركيا لمنع الاجتياح التركي لشمال العراق، بحجة ان هذه الخطوة تدعم حكومة حزب العدالة والتنمية قبيل الانتخابات البرلمانية. فرصة ثمينة لحل خلاف مزمن هذه الأحداث المتسارعة عكست وجود تفاهم غير معلن بين واشنطن وحكومة العدالة والتنمية وحكومة كردستان العراق على ضرورة تعزيز الحوار بين الأطراف الثلاثة وتجنب أي عمل عسكري للجيش التركي في شمال العراق والبحث عن حل سياسي للقضية الكردية، والعمل على دفع حزب العمال الكردستاني الى تسليم سلاحه وطرق باب السياسة، فيما يقف الجيش التركي على الطرف الآخر رافضاً الحل السياسي أو التمثيل السياسي للحزب الكردستاني، مصراً على دخول شمال العراق. بعد الانتخابات البرلمانية التي أعادت حزب العدالة والتنمية الحاكم اكثر قوة الى البرلمان، وسمحت بدخول عشرين نائباً كردياً يعرفون بأنهم يمثلون الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني ويتبنون مطالبه السياسية ذاتها، بدا ان الفرصة سانحة ربما لحل مسألة هذا الحزب من جذورها، وذلك بكسر شوكة الجيش التركي وموقفه الرافض لأي حل للمسألة. فبدأ عناصر الحزب الكردستاني تصعيد هجماتهم مستفيدين من أسلحتهم الجديدة ودعم استخباراتي لم يعرف مصدره، حتى تجاوز عدد قتلى الجيش التركي خلال شهر واحد الثلاثين، مما زاد الضغوط على حكومة أردوغان ودفعها لاستئذان البرلمان في إرسال الجيش التركي الى شمال العراق، كل ذلك من دون ان يحرك الحليف الأميركي ساكناً لمساعدة الجيش الذي سانده داخل حلف الناتو في الصومال والبوسنة وافغانستان في الحرب على الإرهاب، وعلى رغم ظهور تركيا بمظهر الجاد في شن عمليات عسكرية في شمال العراق لكن الإدارة الأميركية استكثرت اي ضغوط على مسعود برزاني وحكومته لوقف الدعم اللوجستي الذي يصل الى حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وهو موقف بدا غريباً وغير مفهوم في البداية، وجعل الحكومة والشارع التركيين يشيران بأصابع الاتهام الى واشنطن وتحميلها المسؤولية عن هجمات الحزب الكردستاني الذي يعمل ويتسلح ويتدرب في شمال العراق حيث الجيش الأميركي يحكم والإدارة الكردية مهيمنة. وعلى العكس مما كان متوقعاً شن حزب العمال الكردستاني هجوماً غير مسبوق في 21 تشرين الأول اكتوبر ? بعد استصدار أنقرة إذن البرلمان بحوالى أسبوع ? شارك فيه حوالى 250 من عناصر الحزب الكردستاني ضد موقع للجيش التركي في ضاغليجه محافظة شرناق بعمق اربعة كيلومترات داخل الحدود التركية، علماً بأن حزب العمال الكردستاني كان يتجنب الهجوم دائماً بأكثر من عشرين فقط من عناصره لتقليل خسائره البشرية، ولم يسبق له ان جمع هذا العدد الهائل من عناصره في مكان واحد خلال السنوات العشر الأخيرة، ومن دون ان يعرف كيف حدد الحزب مكان قافلة الجنود التركية التي كانت مكشوفة هناك من دون حماية، هاجم ليقتل 12 جندياً ويأسر 8، في عملية بدا ان الهدف منها بالأساس اختطاف جنود وإحراج الجيش التركي وإعلان تحد للدولة التركية لاستدراجها الى شمال العراق من دون الاكتراث بجدية تهديدات أنقرة. بدا الجيش التركي بعد تلك العملية في وضع لا يحسد عليه، فازدادت أصابع اللوم الموجهة إليه، والاتهامات المشككة في قدرته وقوته وتلك التي تنبأت بخسائر بشرية اكبر في صفوفه ان حاول دخول شمال العراق. ووضعت تركيا أمام خيارين مؤلمين، إما ان تقف مكتوفة الأيدي وتثق بحليفها الأميركي ليتحرك وينقذها من هذا المأزق، أو ان تضرب بعرض الحائط كل سياساتها الإقليمية وتدخل شمال العراق في مجازفة عاطفية غير محسوبة العواقب، لن تقضي بالتأكيد على حزب العمال الكردستاني، بل تفجر صراعاً تركياً - كردياً في المنطقة يمتد من شمال العراق حتى الداخل التركي، ويؤمن لأكراد العراق حجة في طلب حماية دولية لهم من تركيا، تعزز مساعيهم الى إقامة دولة في شمال العراق، وتخسر أنقرة إثر ذلك شعرة معاوية الباقية بينها وبين الاتحاد الأوروبي. خلال تلك الفترة الحرجة بدت جميع محاولات العراق لطمأنة تركيا والتعاون أمنياً معها ضد حزب العمال الكردستاني غير مجدية وغير جدية، فالاتفاقية الأمنية التي وقعتها أنقرة مع بغداد رفض برزاني الاعتراف بها، وأصر على رفضه اعتبار حزب العمال الكردستاني حزباً إرهابياً. في المقابل كان موقف الرئيس جلال طالباني اكثر براغماتية وسعياً الى نزع فتيل الأزمة، فهو يرفض التدخل العسكري التركي ويعرض الوساطة مع حزب العمال الكردستاني كما كان يفعل سابقاً، وموقف طالباني هذا مهد لحل الأزمة الذي تم بحثه خلال زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس لأنقرة وتم تخريجه والاتفاق عليه خلال لقاء بوش - أردوغان في واشنطن. وهو العودة الى صيغ الحل التي طرحت سابقا على أنقرة ورفضها الجيش، وذلك بإصدار عفو يستثني قيادات حزب العمال الكردستاني ويمهد لترك عناصر الحزب السلاح، وإفساح المجال في البرلمان للبحث عن حل سياسي للقضية الكردية ضمن إطار دولة تركية موحدة، واستئناف الحوار بين أنقرة والقيادة السياسية لأكراد العراق في اربيل، وهو الأمر الذي أعلن أردوغان قبوله في المؤتمر الصحافي عقب لقائه بوش، إذ أكد ان حكومته قبلت الحوار مع الوفد الأمني العسكري العراقي الذي جاء الى أنقرة نهاية الشهر الماضي وضم مسؤولين من سياسيي كردستان العراق، كما كان أردوغان أعلن سلفاً خلال لقاء تلفزيوني مع قناة 24 التركية في أوائل تشرين الأول ? قبل الهجوم الاخير للحزب الكردستاني على الجيش التركي - عن استعداده لحل جميع المسائل السياسية تحت قبة البرلمان ودعا حزب العمال الكردستاني الى ترك السلاح واللجوء الى الحوار السياسي، خصوصاً أن هناك عشرين نائباً كردياً في البرلمان يتحدثون باسم الحزب. التخريجة التي توصل إليها أردوغان وبوش تقضي بإغلاق ملف حزب العمال الكردستاني والتقدم باتجاه حل للقضية الكردية في تركيا بعد تجاوز موقف الجيش الرافض، من دون ان يعني ذلك إسقاط اي عمل عسكري في شمال العراق، اذ تم الاتفاق على تبادل المعلومات الاستخباراتية لوقف اي هجوم جديد للحزب الكردستاني على تركيا، وتفادي ضرب اي مواقع أميركية او للبيشمركة في اي هجوم تركي من الجو على معاقل الحزب الكردستاني، من باب الحفاظ على ماء وجه الجيش بعد كل ما تلقاه من ضربات موجعة من دون رد. ولا ضرر من ان تلجأ قيادات الحزب الكردستاني الى الدول الاسكندنافية أو ان يبقوا في شمال العراق لكن تحت مسمى حزب بيجاك الذي سيتمدد في هجماته ضد ايران. طهران تواجه الخطر وحدها وأنقرة تبدل جِلدها كان قلق طهران مبرراً عندما سعت الى حل للأزمة التركية - الكردية قبل وصول رايس الى انقرة، وأصر وزير الخارجية الإيراني منوشهر متكي على زيارة نظيره التركي علي باباجان قبل ساعات فقط من وصول رايس وعرض عليه تدابير امنية جديدة حملها معه من بغداد لقطع الطريق على اي صفقة مع واشنطن، لكن أنقرة فضلت الحل الأميركي الذي يبدو اكثر قدرة على التعامل مع شمال العراق والتحكم في عناصره. بالتزامن مع هذا الاتفاق التركي - الأميركي المباشر، بدأت توابع تتوضح، وبدأت القوى في تركيا تتخذ مواقع جديدة، إذ سارع حزب المجتمع الديموقراطي الكردي والذي يعتبر الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني الى الإعلان عن خريطة الطريق المطلوبة لإغلاق الملف الكردي في تركيا، وهنا رفع الحزب سقف مطالبه من مطالب ثقافية الى ما يقارب الحكم الذاتي من خلال تقسيم تركيا إدارياً الى محافظات، وإقرار ذلك في الدستور التركي الجديد الذي يجرى العمل عليه، وتحت هذا السقف الذي وضعه الحزب سيبدأ التفاوض السياسي داخلياً على المقابل الذي سيتخلى من اجله حزب العمال الكردستاني عن سلاحه. أما المفاجأة الكبرى فجاءت على لسان زعيم المعارضة الكمالية دنيزبايكال الذي خرج ليطالب بعلاقات اكثر تنوعاً مع شمال العراق وربطه بالاقتصاد التركي وعدم النظر اليه فقط من زاوية الإرهاب، والتأكيد على ان محاربة حزب العمال الكردستاني لا يمكن ان تكون فقط من خلال عمل عسكري في شمال العراق، وإنما بإيجاد علاقات جيدة مع أكراد العراق من خلال منح دراسية لطلابهم في تركيا، وإنشاء إذاعات ومحطات تلفزيون باللغتين العربية والكردية موجهه للكردي في شمال العراق، وهذا تطور كبير يفوق كل التوقعات من وريث الفكر الاتاتوركي وحليف المؤسسة العسكرية إذ لا ينطق بايكال من دون التنسيق معها واخذ موافقتها. تبع هذا مسلسل في صحيفة مللييت يتحدث فيه اكثر من قائد أركان سابق بينهم كنعان افران زعيم انقلاب عام 1980 والذين تسابقوا في تصريحاتهم الى الاعتراف بأخطائهم وأخطاء الدولة في التعامل مع الملف الكردي، وتأكيدهم على ضرورة اعطاء الأكراد حقوقاً ثقافية والسماح بتعلم اللغة الكردية. زعيم المعارضة يحاول ان يحجز لحزبه مقعداً في تركيا الجديدة القادمة والتي رسمها اتفاق بوش أردوغان في واشنطن، ويدرك ان معارضته المستمرة لحل القضية الكردية سيخسره المزيد من الأصوات فيما يتحول حزب العدالة والتنمية الحاكم الى منافس حقيقي للأحزاب الكردية في جنوب شرقي تركيا، أما الجنرالات المتقاعدون فأنهم يحاولون مساعدة زملائهم الحاليين من خلال فتح طريق التوبة أمامهم وتمهيد الطريق لقبول ما كان محرماً سابقاً. حزب العمال الكردستاني كان قد عبر مراراً عن رغبته في حل نفسه وترك القضية الكردية للسياسيين شرط عدم الزج بعناصره في السجون، والتخريجة الحالية ان نجحت تعطيه ما يريد، وتعطي جناحه السياسي متنفساً للخوض في صورة مريحة في تفاصيل القضية الكردية من دون حرج بعد اختفاء عنصر السلاح والإرهاب. وحكومة العدالة والتنمية ستسحب من يد الجيش ورقة حزب العمال الكردستاني المهمة. وأكراد العراق سيتخلصون من مسمار جحا التركي على أرضهم ويحصلون على تعاون أوثق مع تركيا. والجيش التركي اصبح مدركاً ان لعبته المفضلة في شمال العراق للضغط على الحكومة قد تتحول الى سلاح خطير يرتد الى نحره، ومن الأفضل التخلص منها لكن بعد مسرحية عسكرية صغيره تعيد إليه ما هدر من ماء وجهه، فيما تستعيد أميركا خطتها وسياستها القائمة على تعاون كردي - تركي في المنطقة بدل التوتر بين الحليفين، ليسهل بعدها دعم بيجاك عسكرياً ولوجستياً ضد إيران.