اندرج اسم حسن قبيسي في نادي المفكرين مع صدور مقدمة طويلة كتبها لترجمته كتاب مكسيم رودنسون"محمد"صلّى الله عليه وسلم، ونال على المقدمة والترجمة شهادة الدكتوراه من جامعة القديس يوسف في بيروت، بإشراف الأب فريد جبر الذي توفي أثناء إعداد الأطروحة ثم خليل الجر الذي ناقش الأطروحة وأجازها. المقدمة التي صدرت لاحقاً في كتاب عنوانه"رودنسون ونبي الإسلام"ناقشت المنهج الماركسي في تناول السيرة النبوية والتراث العربي الإسلامي بعامة، هذا المنهج الذي كان يحظى بمؤيدين كثر في العالم العربي يتبنونه في أبحاثهم وفي المستويات كافة نذكر في هذا المجال كتاب حسين مروة. واستعان قبيسي في بيانه تهافت المنهج الماركسي في الدراسات الإسلامية بالمنهج البنيوي الذي لم يكن في حيّزه التطبيقي معروفاً كثيراً في المشرق العربي أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات، وربما كانت الأفكار الواردة لدى قبيسي في"رودنسون ونبي الإسلام"سابقة لأفكار محمد أركون المتعلقة بالمنهج. حسن قبيسي من جيل حركة الستينات، حركة الحلم والانفتاح الثقافي والزخم الإبداعي في بيروت الستينات، شهد منتدياتها ومسارحها ومقاهيها ونواديها، وترسخت معارفه عبر اتقانه العميق للغتين العربية والفرنسية، فاتجه الى الانثروبولوجيا، ربما نتيجة رؤيته المبكرة لخيبات العمل الحزبي المستند الى مؤسسات فكرية حديثة، خصوصاً الماركسية. واحد من جيل لبناني دؤوب على درب المعرفة، مولع بالتحقق من المعلومات وبالمقارنات والبراهين والقياسات والمحاكمات، وكان لا بد لمن ينزع هذه النزعة أن يتجه الى فردية تحصنه من الانبهار بهذه الجماعة الفكرية أو تلك كي لا ينساق الى أفكارها بعاطفية ضمنية تعتمد الذريعة لا البرهان. وكانت حياته تمارين في العقلانية، وفي قراءة ناسوتية لفكرنا العربي الاسلامي ذي الصبغة اللاهوتية التي تمنع اعادة قراءته، أو تضطرها الى مداراة ليست من صفات التفكير الحر. الحقيقة الفكرية لا يخشى اعلانها وإن كانت هامشية، يقول في احدى حواشي كتابه"المتن والهامش"منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء:"يعود تاريخ أول ترجمة قام بها كانت هذه الأسطر الى العام 1965، عندما نقل بالاشتراك مع نصير مروة كتاب هنري كوربان"تاريخ الفلسفة الإسلامية". ورغم ان هذا الكتاب طبع مرات منذ ذلك التاريخ، فإن المترجم لا ينصح أحداً الآن بقراءته، ليس فقط لأن الناشر أعاد نشره مراراً بما فيه من نواقص وثغرات دون مراجعة المترجمين، بل لأن الترجمة نفسها ككل لم تعد تقنع صاحبها نظراً لتغير مقاييسه ونظرته الى الترجمة". هذه الشجاعة في النقد والنقد الذاتي ميزت كتابة حسن قبيسي وسلوكه وصولاً الى حياة يومية تقارب العزلة. كان يعي ضرورة الانفتاح عبر الترجمة كقاعدة للتساوي مع الأمم المتقدمة، ويرى القصور في هذا المجال يتزايد يوماً بعد يوم، ومنذ بلغنا خبر موته الفجائي مساء الأربعاء 5 تموز يوليو الجاري، لم نستطع أن نحصل، حتى من أصدقائه المقربين، على إحصاء واف بعدد كتبه المنشورة، الموضوعة والمترجمة. وهو ان لم يكن خارج المؤسسات فعلى تخومها، وقد وصل به الأمر الى أن يكون مرجع نفسه، لكنه أعطى في الفكر وفي ترجمة الفكر ما يجعل حضوره باقياً في مجالات الفكر والأكاديميا.وننهي التعريف الموجز بحسن قبيسي بهذا المقطع يجيب فيه على أسئلة للشاعر محمد العبدالله في حزيران يونيو 1985، حول تكوينه الفكري ومنهجه: "أما مسألة المنهج وأين أصبحت منه، فجديرة بالاهتمام، وسأحاول أن أقول لك رأيي فيها عبر اجابتي على سؤالك الثاني. فالحق أنني لا اعتبر نفسي فيلسوفاً. فالثوب واسع جداً عليّ. وأنا لست رجل علم، بالطبع. ناهيك بأنني لست رجل دين، ولا أدب. كوسويج دونك؟ على حد تساؤل ديكارت. أتراني ذاتاً مفكّرة؟ الى حد ما. أي بمقدار ما تعتبر الحرتقة تفكيراً، أو بمقدار ما ترى من مسافة فكرية بين الحرتقة والهندسة. انني اعتبر أن الهندسة الفكرية في بلادنا أمر شبه مستحيل. فلكي تهندس لا بدّ لك من نظريات ومناهج متبلورة. لا بد لك من بنى فكرية متماسكة، أو من آلات وأدوات هي عبارة عن تجسيد لتلك النظريات والبنى. ونحن لا نملك - باستثناء الفكر الديني ربما - أي بنية فكرية متماسكة تصلح لأن تكون وسيلة للهندسة الفكرية. حاول أن تتذكّر معي ما اذا كنت قد عرفت إبّان السنوات العشرين - وربما أكثر - التي قضيتها في تحصيل"العلم"، استاذاً علّمك أن تكون مهندساً في تفكيرك، أو تمرّست على يديه بمنهج فكري متماسك. أنا من جهتي، لا أذكر ذلك. فباستثناء الشيخ علي الحوماني الذي علمني مبادئ العربية، من خلال تجويد القرآن، والأستاذ ميشال راشد الذي علمني مبادئ الفرنسية، لا أذكر أن لي أستاذاً أو معلّماً. لم يكن لجيلنا أساتذة بالمعنى الفعلي. ومن حيث الفلسفة، مادة اختصاصنا، كان أساتذتنا يتغالبون مع نصوص فلسفية يأتيهم سلطانها من الغرب والشرق على حد سواء، فلا يسعهم حبك الخيوط المنهجية لاستيعابها. فكانت تفلت من بين أيديهم وأيدينا من فرط واتساع خروم الشبكة. كان واحدنا والحالة هذه، وما يزال، أستاذ نفسه، أوتوديداكتوس، كما يقول الأعاجم. في مجال كهذا تسود التفكير ممارسة أشبه بالحرتقة. أي أن الفكر يستعمل عناصر مفكّكة ينتمي كل منها الى بنية فكرية منهارة، ليركّب من هذه العناصر"تأليفاً"ما، فيقال عندئذ أنه ألف كتاباً أو مقالاً نظرياً. هذا التأليف النظري لا قيمة له - في رأيي - إلا من حيث تماسك عناصره وانسجامها. وهو بهذا المعنى ضرب من ضروب الفن، ليس إلا. فكما يركّب الرسّام ألواناً، والموسيقي أصواتاً، والشاعر كنايات، يركّب واحدنا كلاماً أحار في ايجاد تسمية له مقابل اللون والصوت والكناية. ان الفكر الفلسفي يطلق على هذا الكلام الذي يشتغل عليه الفلاسفة اسم المفاهيم. لكنني لا أرى أن في فكرنا الفلسفي شيئاً من ذلك يعوّل عليه". { رحل المفكر وأستاذ الفلسفة اللبناني حسن قبيسي قبل أيام بصمت عن 65 سنة أمضى الكثير منها منعكفاً على الكتابة والترجمة وتعليم الفلسفة في الجامعة اللبنانية، واضافة الى كتبه يملك الراحل مخطوطات كثيرة لم تنشر.