وظيفتهم في الجيش هي القتل ثم القتل ثم القتل. في البداية يتحمسون. وبعد ذلك يتألمون. لكنهم يعتادون. ثم يشعرون بالزهو، خصوصاً بعدما يحتفي بهم زملاؤهم ويرفعون الانخاب ويقدم لهم قادتهم أوسمة وشهادات تقدير. وعندما يصبح القتل لديهم امراً عادياً يتباهون هم ايضاً بجرائمهم. ويروون للأهل والاصدقاء. وعندها يسمعون الانتقاد واللوم. ومن يعود منهم الى انسانيته ويصحو ضميره، لا يعود ينام الليل. ويغرق في الكوابيس. كانت أم سالم فرحة، على غير عادتها في ذلك اليوم. فأخيراً، وبعد طول انتظار، وصلت ابنتها نوال من الاردن. لم ترها منذ خمس سنوات، عاشت خلالها في وحدة قاتلة. وكثيراً ما وقعت فريسة للفقر، يعضها الجوع في نابه تارة، وتقتلها حاجتها الماسة عندما تضطر الى طلب الطعام من أحد الجيران، تارة اخرى. فجاءت نوال تحمل اليها ما لذ وطاب من الاطعمة والحلوى. وتسلمها مبلغاً من المال وفرته من شقاء زوجها المزارع بأجرة في الاغوار الشرقية لنهر الاردن. فاستقبلتها بفرح عارم في بيتها المتواضع الجميل على إحدى قمم مدينة طولكرم. وسهرت معها حتى منتصف الليل. تارة تشكو لها جفاء اشقائها الذين لا يسألون عن والدتهم في وحدتها، وتارة تضخ ما في قلبها الحزين من الألم بسبب وجود ولديها الصغيرين في سجون الاحتلال، ولم تسمع منهما خبراً منذ تسعة شهور. وتارة تستمع الى نوال وقصصها عن حياتها، وتطعم رواياتها بمزحة هنا وضحكة هناك. سهرتا حتى الانهاك. وخلدتا الى النوم. وقبل ان تتمكنا من الغطّ في نوم عميق، هبتا ترتعدان من فتح باب البيت. - "هش... ولا كلمة. من تصرخ منكما تموت على الفور"، هكذا قال الضابط في جيش الاحتلال الاسرائيلي وهو يقتحم المكان بلا ضجيج. وتبعه أربعة جنود آخرون. نزعوا سلك الهاتف من مكانه، وقطعوه. وطلبوا من الام وابنتها الهواتف الخليوية، فعندما اجابتا بأنهما لا تستخدمانها، لم يصدقوا. وراحوا يفتشون في كل جنبات البيت. ثم حشروهما في المطبخ وطلبوا منهما ألا تغادراه حتى تنتهي مهمتهم. ووقف جندي يحرس الباب ويراقب مدى امتثالهما للأوامر. انتشر الجنود في كل جنبات البيت. وأطلوا من النوافذ، فاختاروا احداها، في جدار غرفة النوم. وازاحوا الاثاث وغيروا ترتيبه. وضعوا الكرسي فوق الطاولة من جهة. ورموا بالفرشة العربية التي تستخدمها الام فوق الاريكة. وأغلقوا النوافذ باحكام، باستثناء واحدة ابقوا الخشب الخارجي فيها مغلقاً والزجاج مفتوحاً. وكسروا قطعتين من الخشب في الشباك الخارجي، بمقدار فوهة البندقية ومنظار التلسكوب المركب فوقها. وأعلنوا انهم سيستحكمون في البيت الى أجل غير مسمى. وأمروا الامرأتين بالا تغادرا المطبخ لأي سبب او الى أي مكان. وأخذوا يطلقون أصواتاً هادئة ولكن مشبوهة وغير مفهومة. وعندما كانت ام سالم تطل برأسها من المطبخ، كانت تجدهم يتدربون على الضرب وعلى علاج الجرحى. أم سالم لم تخف كما ابنتها نوال. فهي جربت مثل هذه الحالات وغيرها. اما نوال، فانها ترى هذه المشاهد من بيتها في الاردن، فقط عبر شاشة التلفزيون. والآن تجربها على جلدها وهي ترتعد طول الوقت. وقد مرت ساعتان عليهما كانهما سنتان. وبانتهائهما شكر الجنود المرأتين واطلقوا سراحهما وطلبوا منهما ألا ترويان لأحد قصة اقتحامهم البيت "والا، فاننا سنعود، وعندها الويل لكما"، هدد الضابط. لم تعرف أم سالم وابنتها ماذا فعل الجنود. فهمتا انه مجرد استفزاز. وربما جاؤوا لقتلهما ثم اشفقوا عليهما. الا ان احدهم سُمع وهو يقول "بسيدر" تمام بالهاتف. وعرفتا فيما بعد ان هذا الاقتحام كان عبارة عن تدريب اجراه هؤلاء الجنود، تحضيرا لعملية اخرى اسمها "عملية قنص"، وهي طراز جديد من ابداعات العقلية الحربية الاسرائيلية. هدفها تحويل بيت الى استحكام عسكري، يسمى بلغة الجيش الاسرائيلي "أرملة". يحتلون هذا الاستحكام بسرية، من خلال التحايل على الفلسطينيين. ويأخذ فيه القناصة مواقعهم العسكرية، ويطلقون حمم نيرانهم لتنفيذ الاغتيالات. وبيت أم سالم كان النموذج الذي تدربوا عليه ليتقنوا ممارسة القتل فيما بعد في نابلس. واما الرعب الذي انتاب هذه العجوز وابنتها، فهو الثمن الذي تدفعانه لأن البيت يقع فوق مرتفع. ولكن، في الحساب النهائي، فان هذا الثمن يبدو قليلا بالمقارنة مع ما دفعه أصحاب بيوت فلسطينية أخرى تحولت الى "أرملة" للاحتلال، اي "استحكام القناصة"، وأحدهم أبو توفيق. الطريقة في الجيش الاسرائيلي يعتبرون فكرة "الارملة" عبقرية. وقد لجأوا اليها، كما يقولون، بعدما أثارت الاغتيالات بواسطة الطائرات انتقادات دولية شديدة، إذ أدت الى مقتل عدد كبير من المدنيين الأبرياء. وجاءت هذه الفكرة لتخفض عدد المصابين المدنيين. فهل حققت الهدف؟ لنتعرف الى احدى عمليات الاغتيال الآتية، التي نفذت بهذا الاسلوب الجديد: في ساعة متأخرة من ليلة ربيعية، دخلت قوة كبيرة من الجيش الاسرائيلي الى حي القصبة في نابلس. اختيار الحي لم يكن صدفة. فهو الحي الذي يسيطر عليه شباب المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال. لقد كانوا هربوا الى الجبال أثناء عملية الاجتياح العسكري الأخير، وعادوا بعد انسحاب هذه القوات. وبدأت بين الطرفين لعبة كر وفر، سقط خلالها الكثير من الفلسطينيين والقليل من الجنود الاسرائيليين. ليس سراً بالطبع ان احد مسببات نجاح عمليات الاغتيال الاسرائيلية في تصفية مئات القادة الميدانيين الشباب للانتفاضة، هو وجود عدد كبير من العملاء الفلسطينيين. فهؤلاء من الفقراء ضعاف النفوس يخضعون لاغراءات الاحتلال بكميات مقلقة. لكنهم لا يشكلون العنصر الوحيد. فهناك وسائل أخرى عدة، مثل أجهزة المراقبة والتصوير من الجو ومن المناظير طيلة 24 ساعة في اليوم، القوة العسكرية الجبارة، حيث تدخل حياً صغيراً في نابلس او جنين قوة قوامها الف جندي مدججين بالاسلحة الثقيلة دبابات ومجنزرات ومدافع ومواد كيماوية ذات فعاليات متعددة من المسيل للدموع الى المشوش للرؤية وحتى أجهزة الضربات الكهربائية. يرصدون، بداية، تحركات شخص معين أو خلية معينة. ويرصدون في الوقت ذاته بيتاً يقوم على موقع استراتيجي في الحي او المخيم، ويحتلونه ليحولوه الى "أرملة" استحكام للقناصة. هكذا اختاروا بيت ابو توفيق وبيوت اخرى في البلدة القديمة في نابلس. والطريقة المتبعة لديهم هي الاعتماد على "تضليل العدو". تدخل فرقة من 6-7 مجنزرات الحي بطريقة تظاهرية مزعجة تثير الهلع، وتنشر وراءها مادة بيضاء يحسبها الناس غباراً. وخلال الضجيج، تدخل فرقة قناصة 5 7 أشخاص البيت الذي تم تحديده سلفاً ليكون "أرملة" وتحتله. وتواصل الفرقة تحركها. ثم تعود من حيث أتت. في الظاهر، يبدو الامر وكأنه عملية استعراض عضلات أو مجرد ازعاج واستفزاز. وعندما تنتهي العملية، يخرج رجال المقاومة بشكل تظاهري الى الشارع، يحملون رشاشاتهم. وفي كثير من الاحيان يطلقون الرصاص في الهواء، باستعراض عضلات مضاد. وتهدأ الامور. ويعود كل الى موقعه. بيد ان قوات الاحتلال تكون ما زالت في بداية الطريق. فالفرقة التي احتلت بيت ابو توفيق، أحدثت فيه فساداً. فقد حاول صاحب البيت الاعتراض، فضربوه أمام زوجته واولاده. وحشروهم في غرفة النوم 11 نفراً، بلا طعام ولا دواء. وسمحوا لهم فقط بشرب الماء. وفي بعض الاحيان حرموهم من الخروج الى المراحيض. صادروا أجهزة الهاتف الخليوي منهم جميعاً وقطعوا سلك الهاتف الارضي. واوضحوا لهم ان من يتكلم ويرفع صوته مصيره الموت. ثم غيروا ديكور البيت وأثاثه كما يشاؤون. وكسروا قطعة من درف الشباك الذي يطل على الحي وساحاته. وتمترسوا هناك. وأعطوا الاشارة لقائدهم بعد ساعة بأنهم جاهزون للعملية. الاغتيال بدأت العملية في الرابعة فجراً. وهي ليست عملية حربية واسعة. بل العكس. دخلت الى الحي مجنزرتان فقط. وراح الجنود يتسكعون في الشوارع ويطلقون الرصاص في الهواء، وهم مطمئنون. اذ أن كلاً منهم يرتدي ذراعاً فولاذياً خاصاً مضاداً للرصاص، من قمة الرأس حتى أخمص القدمين. فكما هو متوقع، "يأكل" شبان المقاومة الفلسطينية الطعم ويطلقون الرصاص، فتغادر المجنزرتان الحي، وكأنهما تهربان من وجه المقاومة. ومع مغادرتهما يخرج الشبان بأسلحتهم وكأنهم منتصرون. ويخرج معهم عشرات من الشبان الآخرين وحتى الفتية والاطفال. عندها يبدأ عمل القناصة المستحكمين في ذلك البيت. فيغتالون الشبان فرداً فرداً، وهم لا يدرون من أين تأتيهم الرصاصات القاتلة. في هذه الاثناء تدخل القوات الكبرى المتمركزة خارج الحي وتحمل القناصة وتغادر، تاركة وراءها عدداً من القتلى والجرحى الفلسطينيين. ولا تقتصر الاصابات على المسلحين، بل توقع الكثير من الاصابات بين المدنيين الذين لم يحمل الواحد منهم سلاحاً في حياته. والقناصة أنفسم يشهدون انه يكون من الصعب عليهم التمييز بين المسلحين والمدنيين. اذ انهم ينفذون الاغتيال عادة في الظلام ومن مسافة بعيدة تصل الى 150 متراً. ويستخدمون التلسكوب ذا الرؤيا الليلية، الذي يعمل بالاشعة فوق البنفسجية. وفيها يرون الشخص باللون الاخضر من دون أن تظهر ملامحه الحقيقية. اغتيال 700 فلسطيني بهذه الطريقة، المستخدمة منذ حوالي السنتين فقط، تم اغتيال حوالي 700 شاب فلسطيني واعتقال حوالي الالفين. ولا يوجد احصاء دقيق لعدد الجرحى. وتؤكد المصادر الفلسطينية ان معظم هؤلاء الضحايا مدنيون وليسوا من رجال المقاومة. وللدلالة على ذلك يشيرون الى ان قسماً كبيراً من المعتقلين لم يحاكموا، ولم توجه اليهم تهم. بل اعتقلوا ادارياً في السجون الاسرائيلية المدنية، أو في سجون الجيش التي لا تخضع لمراقبة المحاكم الاسرائيلية ويمكن ان يزج فيها بالمعتقلين من دون اذن محكمة. ومع ان الاسرائيليين ينفون ذلك ويقولون ان معظم القتلى والجرحى والمعتقلين "متورطون في عمليات الارهاب"، فإن اصواتاً جديدة بدأت ترتفع في المؤسسة الاسرائيلية، من الجنود القناصة الذين يصابون ب"صحوة ضمير" في مراحل لاحقة او من مؤسسات حقوق الانسان والديموقراطية التي يطلقها اليسار الاسرائيلي وانصار السلام اليهود، وحتى من المؤسسات القضائية. وآخرها التحذير الذي أطلقه المستشار القضائي للحكومة الاسرائيلية، ميني مزوز، عندما قال في جلسة الحكومة يوم 31 من الشهر الماضي ان "هناك عمليات استهداف للمدنيين الفلسطينيين خلال عملياتنا الحربية الاخيرة. وعلينا الحذر. لأن هذه تسمى جرائم حرب حسب العرف الدولي". ومزوز، بالطبع، يخشى من وصول ملفات هذه الجرائم الى محكمة العدل الدولية، وما يترتب على ذلك من أخطار على المسؤولين العسكريين الاسرائيليين في الخارج. وقد أثارت تحذيراته غضب رئيس الحكومة ارييل شارون، فأجابه: "في كل مكان في العالم يعتبر قتل المدنيين جريمة حرب. لكن عندما يقتل المدنيون اليهود في العمليات الارهابية الفلسطينية يسكتون. ولا نسمع صرخاتهم". والحقيقة ان شارون قصد بذلك الوقوف وراء أجهزته العسكرية والامنية، التي تدير حربا انتقامية ثأرية قبلية ضد الفلسطينيين لا تعرف فيها الحرمة ولا القوانين. ومن الواضح ان هذه الاغتيالات لا تحقق الهدف المعلن منها وهو وقف عمليات المقاومة بمختلف أشكالها. والدليل ان هذه العمليات مستمرة. لكن الأجهزة الأمنية، كل جهاز لاسبابه الخاصة، تدير هذه الحرب وتتعاون في ما بينها كي تنجح في اعطاء الانطباع للاسرائيليين بأنها تحارب الارهاب. أما الاستخبارات العامة الشاباك فتدير هذه الحرب لانها تريد ان تغطي على فشلها في حماية رئيس الحكومة السابق، اسحق رابين. وشارون يريد هذه الحرب كي يبين انه يحارب الارهاب. ووزير دفاعه، شاوول موفاز، يدير هذه الحرب كي يبني لنفسه مجداً سياسياً، حيث انه ينتظر ان يختاره حزب الليكود وريثا لشارون في رئاسة الحزب والحكومة فيما بعد. وكلهم يجتمعون على هدف واحد هو: قتل أكبر عدد من الفلسطينيين حتى يرفعوا راية اليأس والاستسلام اعترافات قناص "عندما استنفروني كنت في المرحاض، أقرأ الجريدة"، يقول شاي، القناص في اللواء العسكري المعروف باسم جبعاتي، والمشهور بممارساته البشعة ضد الفلسطينيين يضيف: "كان ذلك يوم الخميس. جميع رفاقي تقريباً خرجوا في عطلة نهاية الاسبوع وأنا أكلت الخازوق وبقيت. فجأة سمعت ضجيجاً كبيراً خارج المرحاض، ففهمت فيما بعد ان مستوطنة يهودية تلقت صاروخ قسام الصاروخ البدائي الفلسطيني، قفزت من مكاني وارتديت ملابسي وخرجت راكضاً. فتلقفني القائد. أخبرني ان أحداً أخذ ذراعي الواقية، وأمرني بأن أدخل المجنزرة. عندما وصلت الى المجنزرة، كان محركها يدور فقفزت الى الداخل فوجدت ضابطاً وسائقاً وقاذفاً وجندياً آخر. سلموني رشاشاً قصيراً من نوع "ايه - 2" وتلسكوب "اكس-4". وهذا سلاح يعطى عادة للقناص الذي يستطيع اطلاق الرصاص وهو يسير أو يركض. لم اعرف ماذا حدث بالضبط. ولا ماذا سنفعل الان. وقفنا في نقطة ما تبعد مسافة خمسة كيلومترات عن مقر شرطة غزة. نزلت فسمعت أزيز الرصاص المنبعث من رشاشاتنا. أعددت سلاحي للعمل. فقالوا لي ان رجال الشرطة الفلسطينية اطلقوا الرصاص باتجاه مواقع فلسطينية وعندما شاهدونا هربوا. وتمركزنا نحن في المواقع الاستراتيجية. كان المشهد مؤثرا. لكنني خفت. قائدنا نزل الى الشارع من دون غطاء رأس أو رقبة، وهذا خطأ. ثم راح يطارد سبعة من الشرطة الفلسطينية، وبذلك كان يورطنا. دخلنا وراءهم الى مبنى مهجور في غزة. عن بعد 150 مترا لاحظت ان رجال الشرطة الفلسطينية أخذوا يهربون باتجاه المبنى. دخلنا وراءهم. كان بامكانهم تصفيتنا جميعاً. لكن أحداً منهم لم يفعل. سألت القائد: هل تسمح لي باطلاق الرصاص. فاجاب بالايجاب. بل انه اطلق قبلي، فأخطأ. وأطلق زميلي الثاني وأخطأ. فأطلقت أنا وقتلت. كان رجلاً هارباً وهو يرتدي المعطف. ابتعد عني 200 متر. فسقط. اسقطته برصاصة واحدة. وأصبت فوراً بحالة صدمة وذهول. أنا أقتل؟ ولماذا أقتل؟ فأنا لم أتربَّ على القتل. ولكنني صرت أصرخ من قحف رأسي: "انا قتلت. انا قتلت". لا أدري لماذا. ربما أردت ان اسمع صوتي الضائع مرات ومرات. لو اتيح لي عندها لقمت بقتل رجال الشرطة السبعة. اطلقت على الميت رصاصة ثانية فلم اصبه. اطلقت الثانية على الجثة. وصلنا الى الجثة. كانت باردة. لم أر الجرح أو مكان الاصابة. فأمرني الضابط ان أتيقن بأن الرجل ميت. فأطلقت عليه رصاصة ثالثة. فانتفضت الجثة وطارت قليلا في الهواء وهوت على الارض مجدداً. فغادرنا. في الطريق بدأت افكر: لماذا هذا القتل؟ لماذا يجب ان أصبح انا قاتلاً؟ غادرنا المكان وكنا خائفين. وكان مسلحون على بعد مئة متر. سرنا قليلا واذا بفلسطيني يقف في الشارع ويرفع يديه مستسلماً. فأمرناه بأن يخلع ملابسه. خلعها باسثناء اللباس الداخلي. فقذفه جنديان بالحجارة وأبلغاه انهما سيظلان يرجمانه حتى يخلع بقية ملابسه. فامتثل للضغوط. أخذنا المعتقل والجثة. كان خائفاً جداً، الى درجة انه بال في ملابسه. لكنه لم يهمني كثيراً. ما أخافني هي الجثة. نظرت اليها جيداً، واذا بي قد فقأت عينه. في الجهة اليسارية بدت حفرة عميقة تنزف دماً، بدلاً من العين. لا أدري ان كان المشهد مقرفاً ام مخيفاً. غطيت الجثة وأشحت بوجهي جانباً. وصلنا الى المعسكر حيث كان نصف الجيش الاسرائيلي بانتظارنا. جنرال وعمداء وعقداء ونقباء. استقبلونا بالتصفيق الحار والخطابات الرنانة. قدموني على انني بطل. احتفلوا بي وشربنا الانخاب. لكن صورة تلك الجثة لم تفارقني. سبع ليال متواصلة لم أنم. وما زالت الجثة ماثلة أمام ناظري. وباستمرار أسأل نفسي، ان كان تصرفي صحيحا أم لا. في بعض الأحيان أقول: انه مخرب. لو لم أقتله لقتلني. لو لم أقض عليه لكان جاء لينفذ عملية ارهابية في بيتي. ولكنني اعرف انه كان يهرب عندما قتلته أول مرة. وكان جثة عندما قتلته ثاني مرة. انني أراه الآن ينظر الي بتلك العين المفقوءة.