تشهد الوضعية الفلسطينية تحولاً ظاهراً يصفه بعضهم بأنه "انعطافة حادة" ربما تعيد الرئيس ياسر عرفات الى الأضواء التي حجبته لمدة سنتين داخل غرفته في مقر المقاطعة في رام الله. أربعة مؤشرات، حتى الآن، تعكس مثل هذا التحول: أولها المقابلة المطوّلة التي أجرتها صحيفة "هآرتس" مع عرفات في مقرّه وتناول فيها مواضيع أساسية بالنسبة إلى العلاقات الفلسطينية - الاسرائيلية سنعود إليها، وثانيها "انطباع" زئيف شيف المعلق السياسي - العسكري الاسرائيلي المعروف من ان الغاية السياسية لهذا "الانفتاح" على الرئيس الفلسطيني "هي ادخال عرفات مرة أخرى الى القاعة المركزية عبر البوابة الخلفية"، وثالثها النصيحة التي أطلقها الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون بالقول: "ليس لدى الرئيس جورج بوش ورئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون أي خيار آخر غير العمل مع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لصنع السلام في الشرق الأوسط". ورابعها، المبادرة المصرية بخصوص قطاع غزة بعد الانسحاب الاسرائيلي الأحادي الجانب والاتفاق والتنسيق مع عرفات وأخذاً في الاعتبار ان رئيس منظمة التحرير سيكون الحاكم الفعلي للقطاع بعد جلاء جيش الاحتلال. لماذا استُبعد عرفات كشريك في السلام؟ ولماذا يعود الآن الى الواجهة؟ وماذا قال أبو عمّار تطميناً للاسرائيليين والأميركيين عبر "هآرتس"؟ أولاً: استبعاد عرفات كشريك في السلام ظل عرفات طوال ثلث قرن الواجهة السياسية للمقاومة الفلسطينية في مختلف أطوارها ومراحلها ومواقفها وانتصاراتها وانكساراتها. فمنذ أوائل الستينات وحتى منتصف التسعينات من القرن الماضي، زمن قبضة اليد الشهيرة مع اسحق رابين في البيت الأبيض، كان عرفات بالنسبة الى الأميركيين والاسرائيليين رجل الحل والربط داخل منظمة التحرير الفلسطينية. لكن هذه النظرة الى أبي عمّار بدأت تضعف وتتآكل رويداً رويداً وصولاً إلى نهاية القرن وانتهاء رئاسة كلينتون في أميركا وصعود شارون الى السلطة في اسرائيل، واندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية انتفاضة الأقصى. ومع ان الولاياتالمتحدة بإدارة الرئيس بوش الابن وضعت شبكة أمان على حياة عرفات، وتعهّد بذلك شارون، ولا يزال هذا التعهّد قائماً، فقد أعلنت الولاياتالمتحدة ضرورة استبعاد عرفات والمجيء بقيادة فلسطينية جديدة في وقت كان الجيش الاسرائيلي يحتل كل مدن الضفة ويحاصر عرفات في مبنى المقاطعة، وتشهد فلسطين حمّام دم من الجانبين. لماذا سعت أميركا واسرائيل الى استبعاد عرفات؟ تشرح مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، في مذكراتها، أسباب خيبة الأمل الأميركية والاسرائيلية من عرفات حين رفض مشروع الرئيس كلينتون للحل "بعدما أعلن باراك على التلفزيون الاسرائيلي انه سيقبل أفكارنا اذا قبلها عرفات". لكن عرفات، تضيف أولبرايت، "بعث الينا برسالة يجادل فيها ضد السيادة الاسرائيلية على الحائط الغربي وضد أي مساومة على حق العودة ولمصلحة انسحاب اسرائيلي كامل في غضون أشهر بدلاً من سنوات". وساهم موقفه هذا، أي "رفض أفضل عرض للسلام يمكن ان يحصل عليه الفلسطينيون على الاطلاق" في انتخاب شارون الرجل الذي لا يبدي أي تعاطف مع قضيتهم! ودنت ساعة الارهاب ودخلت عملية السلام في غيبوبة عميقة. وفي تحليل أولبرايت ان الموقف الفلسطيني عبر عرفات يعاني من أمرين: الخوف وقصر النظر. الخوف، لأن عرفات كان يخشى ان يقتل إذا قال نعم وهو لا يريد ان يكون مصيره كمصير أنور السادات. وقصر النظر، لأن تركيز الفلسطينيين المفرط لم يكن على ما يمكن كسبه من التسوية بل على ما عليهم التخلي عنه. شأنهم في ذلك شأن من لا يتخلى عن عشرة سنتات ليكسب في المقابل دولاراً. باختصار، كانت أمام الفلسطينيين فرصة ضيّعها عرفات: انها الفرصة الضائعة. "وهذا هو الفارق بين شخص يريد البقاء وبين قائد" على حد قول أولبرايت. وبإعلان موت أوسلو وفشل كامب ديفيد وطابا، اندلعت الانتفاضة الثانية ومعها أعمال العنف من الجانبين. واتهمت جهات أميركية واسرائيلية عرفات بأنه ضالع في هذا التمرد الفلسطيني، وإذا لم يكن هو وراءه فعلى أقل تقدير لم يفعل شيئاً لإيقافه. وزاد من هذا الشعور وجود فصائل من "فتح" كتائب الأقصى في قلب الانتفاضة. وزاد في الطين بلة وقوع أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 في أميركا وإعلان الحرب على الارهاب الأمر الذي سهّل على الأميركيين والاسرائيليين ادخال عرفات ومنظمة التحرير والفصائل الفلسطينية "حماس" و"الجهاد" على لائحة الارهاب. وبالتالي ضرورة اقصائهم عن كل محاولة للتسوية. وأثّرت نظرة المحافظين الجدد الى المنطقة الشرق الأوسط الكبير وضرورة قيام مجتمعات وسلطات ديموقراطية في النظرة الى عرفات باعتباره في رأيها نموذجاً للقيادات العربية غير الديموقراطية في أنظمة تعاني من الفساد والاستبداد والجمود المؤدي الى التعصّب فالإرهاب. لهذا سعت أميركا بقوة الى ايجاد قيادة فلسطينية بديلة فكانت تجربة أبو مازن التي فشلت بل فُشّلت ثم تجربة أحمد قريع التي لا تزال معلّقة حتى اشعار آخر. ثانياً: عرفات حاجة الى السلام إذا كانت القناعات الايديولوجية لدى إدارتي بوش وشارون لم تتغير كثيراً في نظرتها إلى عرفات، الرجل والقناعات والدور، فإنها، على ما يبدو، بدأت تعيد النظر في موقفها منه على ضوء حساباتها الجديدة المرتبطة بالواقع وليس بالتنظير السياسي - الايديولوجي: فقد تعوّد أبو عمّار على ترداد القول: إن الفلسطينيين هم الرقم الصعب في معادلة الشرق الأوسط وأنه هو الرقم الصعب داخل المعادلة الفلسطينية. وباعتراف جميع الذين تعاطوا في الشأن الفلسطيني، فإن عرفات إذا لم يكن قادراً على تسهيل الحلول فإنه قادر بالتأكيد على "خربطتها". من جهة الشرعية، يبقى أبو عمّار، على رغم مرور الزمن، الرئيس الفلسطيني المنتخب من جانب الشعب الفلسطيني وهي صفة لا يتمتع بها أي زعيم فلسطيني آخر، وهذه الشرعية، مهما كانت درجة صدقيتها من حيث الممارسة الديموقراطية، تعطيه في رأي العالم صدقية تمثيل الفلسطينيين، وهو أمر يصعب شطبه بشطحة قلم من شارون أو ولفوفيتز أو بيرل. ثم ان عرفات رمز القيادة الوطنية التاريخية الفلسطينية، وسيبقى ما دام على قيد الحياة، وهو بهذه الصفة قادر ان يجمع حوله، طوعاً أو كرهاً، العديد من الفصائل الفلسطينية والرأي العام الفلسطيني. لقد مارس أبو عمّار أسلوب البراغماتية السياسية مع أصدقائه وأنصاره وأخصامه على حد سواء، وكانت نقطة قوته وضعفه في آن، ان جعل مرجع السلطات السياسية والأمنية والمالية بين يديه، وبالتالي أمسك بالقرار من جانب وتحمّل نتائج الفساد والهدر والمحسوبية من جانب آخر. وزاد من أرجحية مرجعيته أخيراً الغاء القيادات التي يمكن ان تنافسه على الشارع الفلسطيني حين عمدت اسرائيل الى شطب قيادات "حماس" الواحد تلو الآخر: الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبدالعزيز الرنتيسي. وربما تكون اسرائيل أدركت متأخرة مخاطر ان تلعب ورقة "حماس" ضد عرفات فعادت الآن الى العكس. ولا ننسى أخيراً الموقف الدولي المؤيد لشرعية عرفات لا سيما الموقف الأوروبي والموقف العربي على تردد بعضهم فيه، ومنه كما كشفه مؤتمر القمة العربي في بيروت 2002. فأوروبا تصرّ على التعاطي مع أبو عمّار على رغم ضغوطات اسرائيل وتهديداتها. ومصر لا تنفك تعتبر عرفات الرجل المؤهل للتحدث باسم الفلسطينيين في أي مشروع لحل أزمة الشرق الأوسط. وكما استنتج مراسل "هآرتس" من كلام عرفات معه فكتب عبارة تختصر كل شيء: "لا مجال لخطأ في الاستنتاج، طالما بقي حياً فإنه الشخص الوحيد الذي يمكن العمل معه". ثالثاً: العودة الى عرفات أم إعادته؟ ليس الأمر مجرد تمثيلية يعود فيها عرفات الى مسرح عملية التفاوض لتنفيذ "خريطة الطريق" باعتبارها المشروع الدولي المعلن والموافق عليه من القوى الكبرى. فالموضوع ليس المطالبة بعودة عرفات بمقدار ما هو البحث في مطالب عرفات: ماذا يقبل وماذا يرفض في الحل المقترح؟ بمعنى آخر هل هو تغيّر أم أنه لا يزال مصرّاً على تغيير غيره؟ أم غيّر الآخرون يهود وأميركيون رأيهم في أسس السلام؟ وهي أسس تجسّدت أكثر ما يكون جلاء ووضوحاً وشمولية في مشروع الرئيس كلينتون. إن عودة إلى حديث عرفات لصحيفة "هآرتس" تظهر ملامح الأفق المفتوح الذي شاء عرفات ان يطلقه أمام الشعب اليهودي في اسرائيل موضّحاً ومهدئاً ومطمئناً ومبرّراً. فقد تناول في تصريحه النقاط الحسّاسة لدى الجانبين وبدا مستعداً هذه المرة لتجاوز "الفرصة الضائعة" عام 2000 وهذا يعني باختصار: 1- القبول بمبدأ الهوية اليهودية لدولة اسرائيل "فعلاقة اليهود بأرض فلسطين مكرّسة في قرآننا". 2- استبعاد استراتيجية القنبلة الديموغرافية لعرب فلسطين بهدف تفجير دولة اسرائيل. وذلك بالعودة الى قرارات المجلس الوطني الفلسطيني 1988 أي قيام دولة اسرائيل بحدود 1967. 3- العودة الى الشرعية الدولية والاقليمية من خلال القرارين 242 و338 ومؤتمر مدريد: الأرض في مقابل السلام، مبادرة الأمير عبدالله التي تحولت الى المبادرة العربية لقمة بيروت 2002، اسرائيل بحدود 1967 وحل عادل لمشكلة اللاجئين. 4- اهتمام خاص باللاجئين في لبنان البالغ عددهم نحو 200 ألف شخص، على حد قوله، يعود منهم الى اسرائيل نحو 20 الى 30 ألفاً بحسب عاموس مالكا الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات ولكن ما لم يذكره مالكا هو ان اسرائيل تكون قد أخرجت من ديموغرافيتها 200 ألف عربي في القدسالشرقية "فتربح" 170 ألفاً أقل. 5- القدس: "ما وافقت عليه في كامب ديفيد"، يقول عرفات هو "الحائط الغربي، والحي اليهودي مع ممرّ حر تحت سيادتكم". 6- الأرض والحدود: عرفات مستعد لاتفاق يمنحه قطاع غزة وكل الضفة الغربية مع تبادل أراضٍ بنسبة 3 الى 2 في المئة أي 97 الى 98 في المئة تكون أرض دولة فلسطين ويجرى تبادل للأراضي بين الدولة العبرية ودولة فلسطين بنسبة 3 الى 2 في المئة من الضفة الغربية تضاف الى اسرائيل وفي المقابل تعطى دولة فلسطين من داخل الخط الأخضر "أرضاً بحجمها وجودتها" بحسب قول عرفات. وهذا ما يشار اليه دائماً بتعبير: تعديلات طفيفة على حدود 1967. 7- أخيراً يطمئن عرفات كل المعنيين بموضوع السلام بأنه "سيفرض الأمن في غزة على الجميع، وأولهم فتح" بعد انسحاب اسرائيل من القطاع. وسيعمل بالتعاون مع مصر من أجل ادارة مشتركة لشؤون القطاع. هذا هو عرفات الجديد - القديم الذي يظهر مجدداً على الشاشة الاسرائيلية - الأميركية ليقول ماذا يعتقد، وما هو مستعد ان يفعل كونه لا يزال، على رغم الحصار لمدة سنتين، سيّد الساحة الفلسطينية. فهل سيعود عرفات من الباب الخلفي أم من الباب الأمامي؟ لا فرق. المهم انه بعد دفن عشرات ومئات وآلاف الضحايا من الجانبين العربي والاسرائيلي في الثرى فإن الطرفين، بحسب ما قاله ايهود باراك ونقلته عنه مادلين أولبرايت: "سيواجهان مرة أخرى الجغرافيا ذاتها، والديموغرافيا ذاتها، والمشاكل ذاتها". فهل سينجح هذه المرة "خيار عرفات"؟ أم أن بيان الفصائل الفلسطينية العشرة الأخير هو اطلاق نار مسبق أمام هذه العودة؟!